كَمْ أكْرَهُ أكْلَتِي المُفَضَّلَة..!
صادق مهدي حسن
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
صادق مهدي حسن

بينما كنت جالساً في مكتبة صديقي المهندس.. ذات الرفوف العامرة بكثير من العناوين في شتى المجالات، سقطت قصاصة ورق من إحدى مجلات الأطفال القديمة والمؤرخة قبل ما يربو على ثلاثين عاماً، لم يكن في القصاصة غير جملة مبهمة لم أعرف تفسيرها: (كَمْ أكْرَهُ أكْلَتِي المُفَضَّلَة؟!)..
أعطيته الورقة وسألته ضاحكاً: أي كلام غريب هذا؟! أتكره ما تحب؟!! كيف ذاك؟!!
تصنَّع صديقي رسْمَ ابتسامةٍ باردةٍ على شفتيه، ونظر إلى الورقة بامتعاض وقال: كتبت القصاصة في لحظة من لحظات الألم، لم يتجاوز عمري الرابعة عشر حينها، هي قصة قديمة.. ولكن ما يزال صداها يتردد في خاطري.. سأرويها لك على أي حال:
"كانت أمي – رحمها الله - حازمة في تربيتها لي وإخوتي، فالعصبية والصوت المرتفع والقسوة المفرطة شكل سمة ملازمة لها في التعامل معنا، ومن أساليبها في تربيتنا على عادات الأكل الصحيحة (كما كانت تعبر عنها) أنها كانت تلزمنا بأكل كمية معينة من الطعام حتى وإن لم يسد جوعنا، وأن أي تجاوز على تلك التعليمات سيكون وخيم العواقب.
وذات يوم وقبل تقديم طعام الغداء، استدعتني أمي إلى المطبخ، وأشارت إلى صحن كبير ممتلئ بالكباب المقلي الساخن (أكلتي المفضلة)، وقالت بنبرة تهديد صارمة: ستجلس عند الغداء مع جدك وخالك.. إياك أن تأكل أكثر من ثلاث قطع صغيرة وإلا...، نفذتُ أوامر أمي بالحرف الواحد، وأقسم بالله العظيم أني نهضت (جائعاً) بعد أن أكملت حصتي المقررة من الغداء.. تاركاً جدي وخالي يفترسان الكباب دون حساب..! ولكن سوء الحظ كان لي بالمرصاد.. إذ التفت إلي جدي وقال مستغرباً ساخراً: الكباب كثير يا عباس، لماذا أكلت ثلاث قطع فقط؟!! ومع هذا السؤال - وبدلاً من أن أسمع كلمة ثناء وتشجيع لأدبي والتزامي بالتعليمات - هبت عاصفة ضحكات مجلجلة من خالي وأمي التي خاطبتني: (خذ أكثر إن أردت..)، ولكن كان ذلك (العرض الكريم) بعد فوات الأوان..! فما أصابني من إحراج حينها أضاق علي الأرض بما رحُبت، فجلست بمفردي لائذاً بالصمت.. أتصفح تلك المجلة التي حفظت قصاصة الورق الماثلة بين يديك.. ومنذ تلك اللحظة لم أنسَ ذلك المأزق البائس كلما رأيت الكباب..!"
وعقب قائلاً: ربما يبدو الحدث تافهاً مضحكاً لأول وهلة، ولكن لكل موقف عبرة وموعظة ولو من طرف خفي.. فكما أن لمخالفة الأوامر عقوبة، يجب أن يكون للالتزام بها تقدير وثواب، وما آلمني بضراوة أن عقوبة الالتزام بالسخرية والامتهان كانت أقسى من عقوبة المخالفة التي لم تكن لتتعدى بضع ضربات بعصا غليظة في أسوأ الأحوال.. ثم تنهد وقال: أما الآن وقد عرَفتَ السبب، فهل بَطُل عجبُك يا صديقي؟
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat