الوعي والوحي : الكلمة والإنسان بين رسالة الأنبياء وإرث المثقفين
د . صلاح ال خلف الحسيني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . صلاح ال خلف الحسيني

الفصل الأول: الكلمة... بداية الخلق وبداية الوعي
في البدء كانت الكلمة، ومن الكلمة وُلد الوجود، وتحرّكت الأرواح في مسار النور. لم تكن الحروف مجرد رموز تُقال، بل كانت أنفاسًا إلهية تُنطق في الفراغ لتخلق المعنى من العدم. قال تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون".
فكانت الكلمة أول معجزة، وأعظم سرّ في الوجود.
حين نزل الوحي على النبي الأميّ، لم يكن أول ما أُمر به سيفًا ولا مُلكًا ولا حكمًا، بل كان أمرًا بالمعرفة: "اقرأ باسم ربك الذي خلق".
كأن الله أراد أن يُعلن منذ البدء أن القراءة عبادة، وأن المعرفة طريق إلى التوحيد، وأن الوعي هو الوجه الآخر للإيمان.
من هنا كانت الكلمة في أصلها عبادة روحية وفعلًا إنسانيًا يجتمع فيه النور والضمير، والفكر والرحمة. فهي ليست مجرد صوت، بل وعد بين الإنسان وربه أن يكون حرًّا، ناطقًا بالحق، ساعيًا للمعرفة، مؤمنًا بأن العقل أداة التقوى.
ولذلك فإن المثقف حين يكتب، فإنه يؤدي صلاةً بالقلم، ويقيم حوارًا بين السماء والأرض. هو لا يكتب ليُدهش، بل ليُضيء، لا ليُشهر، بل ليُطهّر.
فكل كلمة تُقال بصدق هي قربان صغير على مذبح الحقيقة.
كما كان الأنبياء يبلغون الوحي، فإن المثقفين والكتّاب اليوم يحملون وعي الأمة وصوت الإنسان.
الأنبياء أنقذوا القلوب من عبادة الأوثان، والمثقفون مأمورون بإنقاذ العقول من عبادة الأوهام.
كلاهما يسير على طريقٍ واحدٍ، طريق النور، الذي يبدأ بالكلمة وينتهي بها.
الفصل الثاني: المثقفون والكتّاب... ورثة الأنبياء
لم يكن الأنبياء رسلًا للحروف فحسب، بل رسلًا للوعي والرحمة، حملوا النور في زمن الظلمة، وعلّموا الإنسان أن خلاصه لا يكون بدمٍ يُراق، بل بعقلٍ يُستيقظ.
ومنذ انطفأت مشاعل النبوة، وورثتها الكلمة، وُلد دور المثقف بوصفه الضمير الحيّ للعصر، وصوت الحق في زمن الصمت.
فالمثقف الحقّ لا يعيش في برجٍ من خيال، بل في صميم الوجع الإنساني، يكتب بدمه لا بحبره، ويُصارع الجهل كما صارع الأنبياء الوثن.
كل نبيٍّ واجه طغيانًا، وكل مثقف صادقٍ يواجه في زمانه طغيانًا آخر، لكنه طغيان الفكر والخرافة والجهل والتعصب.
الأنبياء كانوا يدعون إلى الله، والمثقفون يدعون إلى الإنسان الذي هو آية الله الكبرى.
فالله لا يُعبد إلا بحريةٍ صادقة، ولا يُعرف إلا بعقلٍ مفكر.
لذلك، كل كلمة تزرع وعيًا هي فعل عبادة، وكل قلمٍ يخطّ طريق العدالة هو شهاب يطرد ظلمات الجهل.
المثقف الذي لا يوجع قلبه ظلمٌ، ولا تهزه صرخةُ جائعٍ أو مظلوم، لم يرث شيئًا من النبوة.
فكما أن النبيّ كان قلبًا مفتوحًا للعالم، كذلك يجب أن يكون الكاتب صدرًا رحبًا للإنسانية كلها، لا يعرف حدود العِرق، ولا السيف، ولا السياسة.
وقد قال الإمام علي عليه السلام: "طرق الوصول إلى الله بعدد أنفاس الخلائق".
وهي كلمة تهزّ السماوات وتوقظ الأرواح، لأنها تفتح باب الحقيقة الكبرى: أن لله سُبلًا كثيرة، وأن من ضيّق على الخلق طريقهم إلى الله، فقد أنكر سعة رحمته.
فالمثقفون إذًا ليسوا مجرّد صُنّاع نصوص، بل حَمَلة مشعل الهداية، يواصلون في الأرض ما بدأته السماء.
هم شهود الحقيقة في زمن التزييف، وشعراء الرحمة في زمن القسوة، ودعاة الإنسان في وجه كل ما يُفرّق الإنسان عن أخيه.
ولهذا قيل: إن الأنبياء أنقذوا الناس بالوحي، والمثقفين ينقذونهم بالوعي.
كلاهما نور، غير أن الأول نزل من السماء، والثاني وُلد في القلب.
الفصل الثالث: المعرفة والتعارف الإنساني... لغة الله بين الشعوب
قال تعالى في آيةٍ تهزّ ضمير الإنسانية:
"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
لم يقل لتتحاربوا، ولا لتتنافسوا في الحدود والأنساب، بل لتتعارفوا.
فكأنّ الله أراد أن يجعل من الاختلاف طريقًا إلى الكمال، لا إلى الصراع.
التعارف هو جوهر الوجود الإنساني، والمعرفة هي البوابة التي تعبر منها الأرواح إلى بعضها.
كل لغةٍ هي نهرٌ يصب في بحر الإنسانية، وكل لونٍ إشراقةٌ من إشراقات الخلق، وكل ثقافةٍ صلاةٌ مختلفة تؤدى على محراب واحد هو الكرامة الإنسانية.
لقد أراد الله أن يعلّمنا من خلال اختلافنا معناه الأوسع للحب،
فمن لم يعرف سِوى ذاته لم يعرف شيئًا، ومن أحبّ إنسانًا آخر بصدق، فقد اقترب من الله خطوة.
وهنا تكمن عظمة الوعي الإنساني: أن ترى الله في وجوه الخلق، لا في وجهك وحدك.
إن الحدود التي رسمتها سايكس وبيكو ليست حدود الله، بل قيود الإنسان.
لكنّ العارفين يدركون أن الأرض لله، وأن الأرواح لا تُؤمَن بالجوازات، بل بالمحبة.
فما أجمل أن تتلاقى الشعوب في سلامٍ وتزاورٍ وتعارف،
أن يزور الشرقي الغربي ليقول له: أنا أنت في مرآةٍ أخرى.
ومن هنا تأتي رسالة المثقفين — كما كانت رسالة الأنبياء من قبل —
أن يُعيدوا وصل ما انقطع، وأن يزرعوا في القلوب إيمانًا بأن التنوع آية لا نقمة،
وأن الله حين قال: "ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم",
إنما جعل الاختلاف معجزة الخلق لا امتحانه.
الفصل الرابع: الوعي... رسالة الأنبياء وإرث المثقفين
الوعي هو ميراث النبوة بعد انقطاع الوحي،
وهو النور الذي أودعه الله في العقول لتكمل ما بدأته السماء في القلوب.
فحين ختم الله الرسالات، لم يُغلق باب الهداية، بل فتحه لكل عقلٍ حرٍّ وقلبٍ صادقٍ يبحث عن الحقيقة.
من هنا يبدأ دور المثقفين، أولئك الذين يشعلون المصابيح في عتمة العصور،
يحملون في أقلامهم بقايا النور، وفي كلماتهم أصداء الوحي.
يدعون إلى المحبة كما دعا الأنبياء، ويقاومون الظلم كما قاومه كل نبيٍّ بصبره وصوته.
الأنبياء والكتّاب يشتركون في الألم ذاته:
ألم أن ترى ما لا يراه الناس، وأن تنادي بما لا يُفهم سريعًا،
أن تمشي وحدك لأنك تؤمن بأن في آخر الدرب ضوءًا.
لكنّهما لا يتراجعان، لأن من عرف النور لا يستطيع العودة إلى العتمة.
الوعي إذن ليس ترفًا فكريًا، بل عبادة من نوعٍ آخر؛
عبادة العقل كما يعبد القلب،
واعتراف بأن الله لم يخلق الإنسان ليُتبع بلا فهم،
بل ليكون شريكًا في فهم الخلق وإعمار الوجود بالعدل والجمال.
إن الكلمة الصادقة صلاة، والفكرة الحرة صدقة، والكتابة النزيهة جهاد.
ومن جمع بين الفكر والإيمان، بين القلم والرحمة،
فقد ورث عن الأنبياء رسالتهم الكبرى: أن يكون الإنسان خليفة النور على الأرض.
فيا أبناء الكلمة، يا ورثة المعنى،
احملوا أقلامكم كما يحمل العابد مسبحته،
واجعلوا من الفكر جسراً نحو الله والإنسان،
واكتبوا حتى يصبح الليل نهارًا،
فإن الحرف الصادق لا يموت، بل يُبعث من جرحٍ إلى جيل، ومن جيلٍ إلى أفقٍ أوسع.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat