المندائيون وكتاب الكنزا ربا: دراسة تاريخية ونقدية
د . صلاح ال خلف الحسيني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . صلاح ال خلف الحسيني

لعل اخطر مامرت به الرسالات السماوية هو تحريف الكتب او التعليمات الاخلاقية والانسانية وتنظيم حياة الفرد والاسرة والمجتمع وفحرفت اغلبها و التي نزلت الى الانبياء والرسل هي غير المتداولة فعليا وما موجود ليس الا النسبة الضئيلة والتي لايمكننا اعتبارها كتابا سماويا من الله وهذا الاشكال هو الاكبر بطريق هداية البشرية والتي لخصتها التعاليم الاسلامية بالاخلاق والانسانية ولناخذ اليوم انموذجا واضحا بانه كتاب سماوي يحل ماحرم الله ويحرم مااحل الله والنسلط الضوء على احد اهم واقدم الاديان وهو الديانة الصابئة والمندائيين كما ان تاريخ
الأديان مليء بالكتب التي نُسبت إلى أنبياء سابقين والتي وصلت إلينا عبر أجيال من البشر وحفظت في الذاكرة الشفوية قبل أن تُدوَّن على الورق في ظروف مختلفة، ومن بين هذه الكتب يبرز كتاب الكنزا ربا المعروف عند المندائيين بأنه تعليمات النبي يحيى بن زكريا عليه السلام، وهذا الكتاب يمثل مثالًا واضحًا على محدودية مصداقية النصوص المنقولة بشريًا مقارنة بالكتب التي حفظها الله مباشرة كما في القرآن الكريم، ومن هنا تبرز الحاجة إلى دراسة أصول المندائيين ونشأتهم وهجرتهم القسرية والاختلاط الثقافي الذي صاحبهم وكذلك عملية نقل الكتاب عبر الأجيال والقياس على النص القرآني والوقوف على مواقع النبي يحيى وعلاقتها بمناطق جنوب العراق وقضاء العزير، وبهذا يمكن للقارئ أن يرى الصورة كاملة ويستشعر سياق التاريخ والثقافة والدين.
المندائيون أتباع دين يوحّي قديم وقد اعتبروا النبي يحيى بن زكريا نبيهم ومرشدهم الروحي، وقد نشأ هؤلاء في مناطق الشام وفلسطين وأجزاء من العراق قبل أن تضطرهم الهجرات القسرية إلى الانتقال جنوبًا بحثًا عن الأمان، فالاضطهاد الديني والسياسي دفعهم للجوء إلى مناطق جنوب العراق حول البصرة وميسان والأهوار والقادسية والمثنى، وهذه الهجرة لم تكن مجرد تحرك جغرافي بل كانت سببًا في خلق تلاقح ثقافي ومعرفي حيث التقت لغاتهم وأفكارهم وعلومهم مع أهل المناطق الجديدة وهو ما عبّر عنه القرآن في قوله تعالى {وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا}، فتشكل بذلك مشهد غني من الاختلاط والتفاعل بين الثقافات.
وليس المندائيون وحدهم من شهد الهجرة القسرية فقد عايشها المسلمون أيضًا في فترات تاريخية مختلفة وكان بعض أعظم العلماء من المهاجرين أو المنفيين مثل الرازي وابن الهيثم والخوارزمي وجابر بن حيان وابن سينا وابن الرومي والزّمخشري والفراهيدي وأخيرًا الشيخ علي بن الحسن الطوسي الذي أسس حوزة النجف، وقد لعبت هذه الهجرات دورًا محوريًا في تبادل العلوم ونقل المعارف بين المناطق المختلفة وهو ما يفسر تشابك التاريخ الإنساني وتداخل الثقافات.
وعند النظر إلى الأنبياء نجد أن الهجرة كانت جزءًا من مسار حياتهم فإبراهيم الخليل عليه السلام هاجر من فلسطين إلى الحجاز والنبي يحيى عاش مع قومه في فلسطين وربما بعض مناطق العراق أثناء السبي البابلي والنبي عزير من بني إسرائيل وقد ذكره القرآن وأقام مع قومه في مناطق فلسطين أو بين النهرين وقد ارتبط اسمه لاحقًا بقضاء العزير في البصرة، وهذا يوضح أن التنقل والمواجهة مع ظروف مختلفة كان جزءًا من حياة الأنبياء وأن المهاجرين عبر العصور لم يكونوا وحدهم في مواجهة الصعوبات.
أما كتاب الكنزا ربا فقد وصل إلينا عبر أجيال بشرية طويلة، بدأ الأمر مع أتباع النبي المباشرون الذين حفظوا التعاليم شفهيًا ثم تناقلها المريدون المحليون لأجيال لاحقة ومن ثم بدأ الرهبان المندائيون بتدوين النصوص لأول مرة وتنظيمها جزئيًا قبل أن تتفرع النسخ بين العراق وإيران وفي القرن العشرين جمعت الباحثة الألمانية E. S. Drower النصوص ودراستها وترجمتها، لكن المشكلة الأساسية تكمن في أن الكتاب يعتمد على النقل البشري بالكامل دون حفظ إلهي مباشر على عكس القرآن الكريم، وهذا ما يضع نص الكنزا ربا تحت شبهة التحريف والنسيان والإضافة والنقصان
النقل البشري بطبيعته غير كامل فقد شهدنا أن عشرين شخصًا قد يشهدون حادثة واحدة وكل منهم يروي القصة بشكل مختلف حتى مع وسائل النقل البصري المباشر وهذا ما يفسر اختلاف الصحابة حتى في النصوص المقدسة جزئيًا كما حدث مع عبد الله بن مسعود الذي لم يكتب المعوذتين في نسخته للقرآن، وهذا يؤكد أن الاعتماد على البشر وحده لا يكفل دقة النصوص ولا عصمتها.
والقرآن الكريم نفسه يحذر من التحريف في الكتب المنقولة إذ يقول تعالى في سورة النساء {يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا} ويقول في سورة البقرة {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا} وهذه الآيات ترسم حدود الثقة بالنصوص المنقولة عن البشر وتظهر خطورة نسب ما ليس من عند الله إليه.
وبالمقارنة نجد أن القرآن الكريم مصدره الله عز وجل وحفظه إلهي مباشر والبشر وسطاء فقط بينما الكنزا ربا يعتمد على البشر كأساس للنص وكل جيل قد يضيف أو يحذف والنصوص تختلف اختلافًا كبيرًا بين النسخ العراقية والإيرانية، والمصداقية العقلية في القرآن عالية بينما في الكنزا ربا ضعيفة وهذا يجعل الكنزا ربا تراثًا دينيًا بشريًا منقولًا عبر أجيال وليس كتابًا معصومًا أو موحى به مضمونًا.
ويمكن تصور مسار النقل على شكل سلسلة تبدأ مع نبي الله يحيى عليه السلام الذي نقل تعاليمه شفهيًا إلى أتباعه المباشرون الذين نقلوها شفهيًا إلى الجيل الأول من المريدين والمجتمع المحلي الذين بدورهم نقلوها شفهيًا مع احتمالية الإضافة والتحريف ثم قام الرهبان المندائيون بتدوين النصوص لأول مرة وتنظيمها جزئيًا وبعدها انتشرت النسخ المتفرقة عبر العراق وإيران إلى أن جمعتها الباحثة الألمانية E. S. Drower وأصدرتها للعالم الحديث.
وبهذا يتضح للقارئ أن الكنزا ربا كتاب مهم للمندائيين ويعكس فهم أتباع النبي يحيى لتعاليمه ولكنه نص بشري معرض للتحريف والنسيان والزيادة والنقصان في حين أن القرآن الكريم محفوظ بإرادة الله مباشرة ويمثل العصمة في النقل والحفظ، والآيات القرآنية تحذر من الاعتماد على النقل البشري وحده دون حفظ إلهي مباشر، لذلك يظل الكنزا ربا تراثًا دينيًا بشريًا غنيا بالمعلومات الثقافية والتاريخية لكنه لا يصل إلى مستوى العصمة الإلهية كما هو القرآن الكريم.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat