صفحة الكاتب : د . صلاح ال خلف الحسيني

مبررات الاحتلال الصهيوني لفلسطين: تحليل تاريخي وفلسفي
د . صلاح ال خلف الحسيني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

على الرغم من أن الخطاب الصهيوني غالبًا ما يُقدّم الاحتلال الصهيوني لفلسطين على أنه صراع ديني بين اليهود والمسلمين، إلا أن الواقع التاريخي يثبت عكس ذلك. فالحركة الصهيونية لم تنشأ كدين جديد، ولا كانت مجرد نزاع ديني، بل هي مشروع توسعي سياسي واستعماري هدفه إقامة دولة على أرض مأهولة، تحت غطاء الدين والأسطورة التاريخية. تعتمد هذه الحركة على فكرة "شعب الله المختار" واستعادة أمجاد أجدادهم الأنبياء، لتبرير إعادة توطين اليهود في فلسطين، متجاهلة الحقوق التاريخية والديموغرافية للشعب الفلسطيني. هذا البحث يسعى إلى تحليل الجذور الفكرية للصهيونية، وفحص مبرراتها الدينية والتاريخية والسياسية، ودور الغرب في تأسيس المشروع، والقرارات الدولية المتعلقة بفلسطين، والاستراتيجيات الخفية التي استخدمت لتثبيت الاحتلال، بهدف توضيح أن القضية الفلسطينية ليست صراعًا دينيًا كما يُسوَّق، بل نزاع قائم على الاستعمار والاحتلال واغتصاب الأرض.

الحركة الصهيونية لم تظهر فجأة مع احتلال فلسطين عام 1948، بل كانت نتاجًا لمسار طويل من الأفكار الدينية والتاريخية والسياسية في أوروبا، وقد لعبت الشخصيات المفكرية دورًا محوريًا في تحويلها من حلم ديني رمزي إلى مشروع سياسي استعماري. ارتكزت الصهيونية على فكرة "أرض الميعاد" و"العودة إلى صهيون" كما وردت في نصوص العهد القديم، لكنها ظلت طوال قرون مجرد رمزية دينية يتداولها اليهود في صلواتهم، دون أن تتحول إلى مشروع سياسي عملي. كانت هذه الفكرة تُستغل لاحقًا لتبرير أي مشروع سياسي تحت شعار استعادة الأمجاد الدينية للأجداد.

 

مع صعود الحركات القومية في أوروبا بالقرن التاسع عشر، بدأت الشعوب تطالب بدول قومية خاصة بها، واستفادت الصهيونية من هذا المنطق القومي، معتبرة اليهود "أمة بلا وطن". هذا التلاقح بين القومية الأوروبية والأسطورة الدينية مهد الطريق لتحويل فكرة العودة إلى فلسطين إلى مشروع سياسي عملي. اليهود عاشوا قرونًا كأقليات في أوروبا، وتعرضوا لأشكال من التمييز والعنف، من محاكم التفتيش الإسبانية إلى المذابح في روسيا، وصولًا إلى الهولوكوست لاحقًا. هذا الاضطهاد أوجد مبررًا نفسيًا وسياسيًا لفكرة "الوطن الآمن"، لكنه لم يبرر سلب الأرض من شعب آخر.

ثيودور هرتزل، الصحفي والمفكر النمساوي، يُعتبر المؤسس الرسمي للحركة الصهيونية الحديثة. في كتابه الشهير "الدولة اليهودية" (Der Judenstaat) عام 1896، طرح فكرة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين لحل "المسألة اليهودية" في أوروبا. ركز هرتزل على ثلاث محاور رئيسية: أولًا، اعتبر اليهود أمة لها الحق في وطن مستقل؛ ثانيًا، رأى أن اضطهاد اليهود لا يمكن حله إلا بإقامة دولة لهم؛ ثالثًا، اقترح إنشاء مؤسسات مالية وسياسية لدعم الهجرة وشراء الأراضي، وتحويل الفكرة الدينية إلى مشروع سياسي عملي. في مؤتمر بازل 1897، الذي نظمه هرتزل، تم تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية، واعتمد برنامجه كإطار عمل رسمي للحركة، محددًا أهداف الهجرة، شراء الأراضي، وإنشاء البنية المؤسسية، مما حول الصهيونية من فكرة رمزية دينية إلى حركة سياسية استعمارية واقعية. بفضل أفكار هرتزل وتنظيمه للمؤتمر، بدأت الصهيونية تتحرك على الأرض، مع تشكيل مؤسسات داعمة وتنظيم الهجرة، وبدأت موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين مطلع القرن العشرين بشكل متزايد، بدعم ضمني من القوى الأوروبية الاستعمارية.

 

الغرب لم يكن مجرد داعم للصهيونية، بل شريك أساسي في تأسيس المشروع. في نهاية القرن التاسع عشر، كانت القوى الأوروبية تتسابق للسيطرة على المشرق العربي، وفلسطين احتلت موقعًا استراتيجيًا قرب قناة السويس. دعم مشروع استيطاني أوروبي في فلسطين كان يحقق هدفين: التخلص من "المسألة اليهودية" داخل أوروبا، وزرع قاعدة استعمارية تخدم المصالح الغربية في قلب الشرق. خلال الحرب العالمية الأولى، أصدرت بريطانيا وعد بلفور الذي تعهدت فيه بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، حيث وفّر الصهاينة الدعم المالي والسياسي لبريطانيا، ومنحت بريطانيا لهم الغطاء القانوني والسياسي في فلسطين، مع تجاهل السكان الأصليين. بعد سقوط الدولة العثمانية حصلت بريطانيا على الانتداب على فلسطين (1920-1948)، واستخدمته لتسهيل الهجرة اليهودية ومنح الأراضي، وقمع الثورات الفلسطينية، ليصبح الانتداب أداة تنفيذية لوعد بلفور. فرنسا والولايات المتحدة دعمتا لاحقًا المشروع الصهيوني، عبر الدعم المالي والسياسي، بينما الإعلام الغربي ركّز على تصوير اليهود كضحايا يحتاجون وطنًا آمنًا، وصوّر الفلسطينيون كـ "شعب غير موجود" لتبرير مصادرة أراضيهم.

الحركة الصهيونية ومن ورائها القوى الغربية روجت لعدة مبررات لتبرير إقامة دولة على أرض فلسطينية مأهولة. أولها المبرر الديني: فلسطين هي "أرض الميعاد" التي وعد الله بها بني إسرائيل. النصوص الدينية رمزية ولا تمنح حقوقًا سياسية، والأرض مقدسة لكل الأديان وليست ملكًا حصريًا لجماعة واحدة. ثانيها المبرر التاريخي: اليهود هم السكان الأصليون لفلسطين منذ آلاف السنين، والحق التاريخي المزعوم لا يغطي حقوق السكان الحاليين، والفلسطينيون والعرب هم الامتداد السكاني المستمر والمتجذر. ثالثها المبرر السياسي: الحاجة إلى ملاذ آمن بعد اضطهاد أوروبا، لكن هذا لا يبرر سلب أرض شعب آخر، وكانت هناك بدائل أخرى لإقامة وطن آمن لليهود. رابعها المبرر الديموغرافي: الادعاء بأن فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" كاذب، حيث تشير الإحصاءات إلى أن العرب كانوا أغلبية ساحقة، والمدن الفلسطينية الكبرى كانت عامرة بالحياة والثقافة. خامسها المبرر الاستعماري: وعد بلفور الذي تعهدت فيه بريطانيا بإقامة وطن قومي لليهود، لكنه خالف مبادئ حق تقرير المصير وأسس القانون الدولي. سادسها المبرر الأمني: حماية اليهود بعد الهولوكوست، لكن الأمن لا يتحقق بتهجير شعب آخر وسلب أرضه، واستخدام المأساة كذريعة سياسية لا يلغي مسؤولية إسرائيل عن الاحتلال.

 

حاول المجتمع الدولي وضع أطر قانونية لتنظيم الوضع في فلسطين وحماية حقوق الفلسطينيين. قرار تقسيم فلسطين 1947 (القرار 181) اقترح تقسيم الأرض إلى دولتين، لكن كان غير عادل، حيث حصل اليهود على نحو 55% من الأرض رغم كونهم أقلية ديموغرافية، ورفض الفلسطينيون القرار. قرار حق العودة 194 أكد حقوق اللاجئين في العودة أو التعويض، لكنه لم يُنفذ بشكل كامل. قرارات مجلس الأمن مثل 242 و338 أكدت انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة وحل النزاع سلميًا، لكنها لم تُطبق عمليًا. القانون الدولي واتفاقيات جنيف تحظر تهجير السكان بالقوة، لكن القوة العسكرية والسياسية لإسرائيل تفوقت على هذه النصوص، ما جعل الاحتلال مستمرًا رغم الشرعية الدولية.

 

الاحتلال الصهيوني قائم أيضًا على استراتيجية خفية وتحالفات دولية، حيث دعمت بريطانيا المشروع قبل وعد بلفور، وحمت الولايات المتحدة إسرائيل بعد 1945، من خلال الدعم المالي والسياسي. الإعلام الغربي لعب دورًا كبيرًا في تزييف الرواية، وتصوير اليهود كضحايا، والفلسطينيين كغير موجودين، بينما المفكرون العرب يرون الاحتلال جزءًا من مخطط دولي للتحكم في المنطقة واستغلال مواردها. تصوير القضية الفلسطينية كصراع ديني ساعد في إخفاء طبيعة الاحتلال الاستعمارية الحقيقية.

بعد تحليل الجذور الفكرية والصهيونية، ودور الغرب، وفحص المبررات، والقرارات الدولية، واستراتيجيات التلاعب الإعلامي والسياسي، يمكن استنتاج أن الاحتلال الصهيوني ليس صراعًا دينيًا أو نزاعًا تاريخيًا عابرًا، بل عملية استعمارية إحلالية مدعومة دوليًا. الحق الفلسطيني قائم على استمرار الوجود التاريخي، وقانونية تقرير المصير، والهوية الثقافية والحضارية المستمرة، ويجب احترام حقوق الفلسطينيين وتحقيق العدالة عبر تطبيق القانون الدولي وعدم الاكتفاء بالقرارات النظرية. كل هذا يوضح أن الاحتلال الصهيوني مشروع استعمار مدعوم تحالفات دولية، مبني على مزيج من الأساطير الدينية، التزوير التاريخي، ودعم الغرب، وليس على شرعية أو حق طبيعي.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . صلاح ال خلف الحسيني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/09/22


  أحدث مشاركات الكاتب :



كتابة تعليق لموضوع : مبررات الاحتلال الصهيوني لفلسطين: تحليل تاريخي وفلسفي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net