التحولات الجيوسياسية في جنوب آسيا: أثر الاضطرابات الباكستانية – الأفغانية على التوازن الإقليمي والتحالفات الدولية
مهند ال كزار
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
مهند ال كزار

تشهد الحدود الباكستانية – الأفغانية منذ أسابيع توترات متصاعدة وصلت إلى حدّ الاشتباكات المسلحة وتبادل الاتهامات، بشأن دعم جماعات مسلحة وتنفيذ هجمات عبر الحدود، هذه الأزمة رغم طابعها الأمني الظاهر، تحمل في عمقها تحولًا استراتيجيًا مهما في موازين القوى الإقليمية، وتعيد رسم خطوط النفوذ في جنوب آسيا بما يتجاوز حدود البلدين.
أولًا: اهتزاز الدور الباكستاني التقليدي
منذ سيطرة حركة طالبان على كابل عام 2021، اعتقدت باكستان أنها كسبت حليفًا مضمون الولاء لها في مواجهة الهند، إلا أن الأحداث الأخيرة أظهرت العكس تمامًا، إذ بدأت طالبان تتصرف كسلطة مستقلة عن النفوذ الباكستاني، وترد على أي تدخلات حدودية أو سياسية بحدة واضحة، فقد فقدت إسلام آباد تدريجيًا نفوذها في كابل، بينما بدأت قوى إقليمية أخرى كالهند والصين وإيران بملء الفراغ الذي خلّفته هذه الخيبة الاستراتيجية.
ثانيًا: صعود الهند كقوة موازنة جديدة
الهند وجدت في هذا الشرخ بين طالبان وباكستان فرصة لتعزيز موقعها الإقليمي، فقد أعادت فتح قنوات دبلوماسية مع كابل، وبدأت بتقديم مساعدات إنسانية ومشاريع تعاون اقتصادي، وهو ما انعكس في بيان مشترك بين الجانبين أكد على "مكافحة الإرهاب" و"تعزيز التعاون المشترك".
هذا التقارب أثار استياء باكستان، التي ترى في أي وجود هندي قرب حدودها الغربية تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، وبهذا بدأت نيودلهي تتحرك على جبهتين في آن واحد: كشمير من الشرق، وأفغانستان من الغرب، مما يعيد رسم الخريطة الأمنية في جنوب آسيا.
ثالثًا: الموقف الصيني – الحذر والحسابات الاقتصادية
تراقب الصين الوضع من زاوية مصالحها الاقتصادية والأمنية، فمشروع "الممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني (CPEC)" أصبح مهددًا بالاضطرابات، خاصة في المناطق الحدودية، وفي الوقت نفسه ترى بكين في أفغانستان مصدرًا للثروات المعدنية وموقعًا استراتيجيًا ضمن مبادرة الحزام والطريق، ما يجعلها تمارس دبلوماسية صامتة هدفها الحفاظ على الاستقرار دون انخراط مباشر في الصراع، وبينما تبقي قنواتها مفتوحة مع طالبان، فإنها تضغط على باكستان لضبط الحدود وتأمين مشاريعها الاستراتيجية.
رابعًا: إيران وروسيا… بين الحذر والانخراط
إيران التي تشترك مع أفغانستان بحدود طويلة، تتعامل مع الأزمة بواقعية سياسية، فهي تخشى من تدفق اللاجئين ومن تنامي نشاط تنظيم داعش – خراسان، لكنها في الوقت نفسه ترى في تراجع النفوذ الباكستاني فرصة لتعزيز حضورها في غرب أفغانستان.
أما روسيا، فتتابع التطورات بعين القلق خشية امتداد الفوضى إلى دول آسيا الوسطى، لذلك أعادت موسكو تنشيط تعاونها الأمني مع طاجيكستان وأوزبكستان، وحاولت عبر "منظمة شنغهاي للتعاون" الدفع نحو تهدئة ميدانية بين كابل وإسلام آباد.
خامسًا: التحالفات الدولية وإعادة توزيع النفوذ
الولايات المتحدة والدول الغربية تنظر إلى هذا الصراع من زاوية المصلحة الباردة، فكلما ازداد التوتر بين طالبان وباكستان، تضاءلت فرص تشكل جبهة موحدة مناوئة للنفوذ الغربي، واشنطن تستفيد من هذا الانقسام دون الحاجة إلى التدخل المباشر، فيما تستخدمه كأداة ضغط سياسية في ملف العقوبات على حكومة طالبان.
في المقابل، تقترب الصين وإيران وروسيا من بناء تحالف مرن في مواجهة المحور الهندي – الأمريكي، لتتجه المنطقة نحو تعدد مراكز النفوذ بدل الهيمنة الثنائية التقليدية.
سادسًا: قراءة في التوازن الإقليمي الجديد
ما يحدث اليوم لا يمكن اعتباره أزمة عابرة، بل هو بداية مرحلة إعادة تموضع كبرى في جنوب آسيا، باكستان تخسر تدريجيًا أوراقها الاستراتيجية القديمة، طالبان تحاول فرض نفسها كفاعل مستقل لا تابع، الهند تحقق مكاسب دبلوماسية وأمنية مؤقتة، الصين وروسيا وإيران تتعامل بحذر لتأمين مصالحها دون الاصطدام المباشر.
نحن أمام توازن هشّ ومتعدد الأقطاب، حيث لا يمتلك أي طرف القدرة على الهيمنة الكاملة، بل تُدار المنطقة عبر شبكة مصالح متقاطعة ومتناقضة في آن واحد.
الاضطرابات الباكستانية – الأفغانية ليست نزاعًا حدوديًا فحسب، بل مؤشرًا على تحوّل أعمق في بنية التحالفات الإقليمية.
إنّ جنوب آسيا يدخل مرحلة جديدة عنوانها التنافس على النفوذ بدل التحالفات الثابتة، وتعدد الأقطاب بدل الثنائية القديمة بين الهند وباكستان.
وفي ظل هذا الواقع، يبدو أن المنطقة مقبلة على توازن مضطرب طويل الأمد، سيؤثر حتمًا في حسابات القوى الدولية الكبرى وملفات الأمن الإقليمي لسنوات قادمة.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat