عندما تختلط الأسطورة بالحقيقة فتكوّن نصا مقدسا او عندما يتداخل نصان لا علاقة لأحدهما بالآخر فمن الصعب الخروج بنتيجة توافقية بين النصين لأنه سوف يُنتج عنهما شكل ثالث هجين لا علاقة له بأحدهما وان حمل بعض الخصائص مثل خلط اللون الأسود بالأبيض فإنه سوف يُنتج لونا آخر ليس له علاقة باللونين .
الكتاب المقدس ـــ وأقصد هنا العهد القديم التوراة ــ جمعٌ عشوائي للكثير من النصوص التي تم تدوينها من الذاكرة فاختلطت بها من خرافات الامم وعقائدهم البشرية الشيء الكثير بحيث يصعب الخروج بالنتيجة إلا بعد جهد وذلك عبر مقارنة بين الطبعات المختلفة والترجمات وخصوصا الموجودة باللغات الأصلية القديمة فغالبا ما تكون ــ تقريبا ــ اقرب للواقع نظرا لقربها من زمان الحدث .
بين يدي الآن نبوءة تداخلت معها اسطورة من الأدب البابلي فاختلط الحابل بالنابل واصبحت مزيجا مسخا لا يُمكن الخروج منه بنتيجة إلا لذوي العقول البصيرة التي تمتلك صبرا مميزا.
فكما هو معروف فإن (عزرا) الكاتب هو الذي دوّن التوراة من الذاكرة بعد رجوعه من سبي بابل بأكثر من سبعين سنة ثم زعم أنه عثر على التوراة في خرائب الهيكل سفر عزرا 7: 6 ((عَزْرَا هذَا صَعِدَ مِنْ بَابِلَ، وَهُوَ كَاتِبٌ مَاهِرٌ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى)).ولم يعترف أحد بالتوراة التي جاء بها عزرا لعلمهم بضياعها من تابوت العهد، إلا بعد أن شهدت النبية ((خلدة)) على صحتها ــ وهي زوجة حارس ثياب الملك ــ يعني بشهادة امرأة واحدة ساحرة زعموا انها نبيّة اصبحت التوراة مقدسة موثوق بها كما في سفر الملوك الثاني 22: 8 ((فَقَالَ حِلْقِيَّا الْكَاهِنُ الْعَظِيمُ لِشَافَانَ الْكَاتِبِ: قَدْ وَجَدْتُ سِفْرَ الشَّرِيعَةِ فِي بَيْتِ الرَّبِّ وَأَمَرَ الْمَلِكُ حِلْقِيَّا الْكَاهِنَ اذْهَبُوا اسْأَلُوا الرَّبَّ لأَجْلِي وَلأَجْلِ الشَّعْبِ وَلأَجْلِ كُلِّ يَهُوذَا مِنْ جِهَةِ كَلاَمِ هذَا السِّفْرِ الَّذِي وُجِدَ، فَذَهَبَ حِلْقِيَّا الْكَاهِنُ وَأَخِيقَامُ وَعَكْبُورُ وَشَافَانُ وَعَسَايَا إِلَى خَلْدَةَ النَّبِيَّةِ، امْرَأَةِ شَلُّومَ بْنِ تِقْوَةَ بْنِ حَرْحَسَ حَارِسِ الثِّيَابِ فَقَالَتْ لَهُمْ: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ)) فلم يسأل الكاهن حلقيا الرب كما امره الملك لأنه يعلم حقيقة التوراة وانه هو من كتبها وإنما ذهب إلى زوجة حارس ثياب الملك خلدة فأعطت شهادة بصحة التوراة .ومنذ ذلك اليوم تم اعتمادها على انها سفر الشريعة التوراة.
فكيف نخرج نتيجة كاملة من كل هذه اللخبطة ؟ ولكني قمت بمقارنة النصوص المختلفة حول هذه الرواية وسألت متخصصين من زملائي اللاهوتيين ، الذين اكدوا لي علمهم باختلاط الاسطورة البابلية بالنص فخرجت بالنتيجة التالية والتي عرضتها على زميلي الاستاذ اللاهوتي (جون توما التلكيفي ) راعي كنيسة أم الرب في خابور. صحيح ان جوابه كان : (من الصعب القبول بهكذا نص ولكن في الحقيقة انه متجانس وصحيح ويرمي إلى هدف سياسي قوي . فهو افضل مما في النص الذي يجعل الهدف جنسيا شهوانيا ، فهذا لا يستقيم مع ابنة نبي ـ حلقيا ـ وزوجة نائبه المطاع الشجاع يويقايم . ثم اردف ولكن إلى أن تريدين ان تصلي يا ازابيل؟)
من هما الشيخان الآثمان الغادران اللذان آذيا ((السوسنة))؟ ابنة النبي حلقيا وزوجة يويقايم وصيه وصديقه وعضيده .
النبوءة تتحدث عن تلك المرأة والتي كانت هدف الشيخين اللذان تابعاها بالأذى حتى داخل بيتها وتآمرا عليها ، ولكن مع الأسف ضاعت الكثير من معالم هذه النبوءة تحت تأثير النص البابلي .
فاختلطت قصص حب وغرام ومحاولة اغتصاب من اساطير بابل بالنص المقدس.
يقول النص : كانت سوسنة امرأة جميلة كاملة مؤمنة جدا بالرب وزوجة شخصية دينية مرموقة وابوها نبي من أنبياء بني إسرائيل وكانت تعضد زوجها وتآزره كما في تتمة سفر دانيال 1 : ((يوياقيم وكان متزوجا امراة اسمها سوسنة ابنة حلقيا جميلة جدا ومتقية للرب)). وكان الرب غير راضي عن الشيخين اللذان اختارهما الشعب للحكم .
((وكان قد اقيم شيخان من الشعب للقضاء وهما من الذين قال الرب فيهم ان الاثم قد صدر من شيوخ قضاة يحسبون مدبري الشعب وأسلم الشيخان واسلما عقولهما الى الفساد وصرفا اعينهما لئلا ينظرا الى السماء فيذكرا الاحكام العادلة فقام الشيخان في وسط الشعب ووضعا ايديهما على راس سوسنة فرفعت طرفها الى السماء وهي باكية لان قلبها كان متوكلا على الرب فصدقهما المجمع لانهما شيخان وقاضيان في الشعب وحكموا عليها بالموت فصرخت سوسنة بصوت عظيم وقالت ايها الاله الازلي البصير بالخفايا العالم بكل شيء قبل ان يكون انك تعلم انهما شهدا علي بالزور وها انا اموت ولم اصنع شيئا مما افترى علي هذان)) فكانت اول شهادة زور في الدين أن الشيخ الأول سلبها ارضها ، والشيخ الثاني سفه قولها فقال لها ما نعلم ما تقولين.
بعد جهد استطعت ان استلال هذا النص وانتزاعه من بين الاساطير البابلية .
التعليقات
يوجد 23 تعليق على هذا المقال.
عندما يهرب الانسان من دينه فإنه يلجأ إلى آخر دين او عقيدة تُماشي العصر لعله يجد فيها ما يُريح نفسه المتعبة من هموم التحريف والتزييف وهكذا كل الأديان تسعى في النهاية إلى دين واحد ورب واحد. انا جربت المسيحية ودرستها ودرست الاديان معها وتخصصت في ذلك فوجدت أن الإسلام على ما هو عليه الآن فهو افضل بكثير مما في الأديان الأخرى . لأن الأديان الأخرى التي تقودها سياسات غربية فاشلة حاقدة هذه الأديان هي السبب في تصوير الدين الاسلامي على انه دين تخلف وارهاب وهو ليس كذلك فمن بين مليار مسلم لربما انحرف بضع آلاف لا يُمثلونه، انا شخصيا ومن خلال سعي دؤوب حثيث لم اجد افضل من الاسلام دينا وعقيدة ومنهج. فتوى من مرجع ديني في مدينة نائية لا توازيها كل فتاوى السياسيين في هذا العالم ولا رجال الاديان الباطلة الأخرى . أغلب الأديان في انحدار والمشكلة ان هذه الأديان لا تقوم لأنها لا تملك مقومات النهوض مرة أخرى والسبب ان دساتيرها قد حُرفت وغُيرت ومعجزاتها ذهبت فلم يتبق من هذه الاديان إلا رسوم مندرسة . اما بالنسبة لك يا اخي الطيب رأفت فأنت متأثر بشيئين . الأول : انك متأثر بالدعاية الغربية التي تروجها فضائيات وصحف ومجلات ووسائل تواصل عربية عميلة خائنة لا يهمها من امر دينها وشعوبها إلا حصولها على المغانم وفي ساعات الخطر يتركون دينهم وشعوبهم ويهربون إلى اموالهم وقصورهم التي اعدوها .
واما الثاني انك متأثر بما تشاهده من افعال بعض المسلمين وما آلت إليه مصائرهم . وهذا ايضا بسبب الدعاية الغربية المكثفة فهم الذين يُثيرون الحروب ويشعلون الازمات لكي تنشغل الامم بحروبها الداخلية والركض وراء قرص الرغيف فينهب الغرب ثرواتهم .
انظر لهم وهم يقتلون الملايين ويصنعون الأسلحة المرعبة ويتآمرون على الشعوب فيصفون انفسهم بأنهم اهل الديمقراطية والتقدم والرقي ، وإذا مسلم واحد قام بعملية ضدهم يتم اتهام الاسلام كله . بينما ارهابييهم ومجرميهم يتعذرون لهم ويقولون انهم مرضى او مجاني .
نصيحتي هو أنك على خير وإلى خير فلا تترك الخير وانت تعلم ، فيُصيبك ما لا تعلم .
التاريخ يكرر نفسه في حوادث الازمان ومسار الاجيال وكأن العبرة في ذلك للاجيال المتعاقبة لترى تكرر الجرائم فتتعظ وتتذكر ولكن !
لقد ذكر النبي الكريم محمد (ص) في أحاديثه حوادث الماضي وسردها على من سمعه من الناس ليتعظوا ولايكرروا جرائم الاجيال التي سبقت ومن ذلك قوله المشهور ( لتتبعن سنن من قبلكم ...) ففي حديثه هذا يشير الى ان المسلمين المحرفين لدينه سيتبعون سنن المحرفين في الاديان السابقة ويحذون حذوهم بطريقة متشابهة حيث يقول في تكملة الحديث ( حتى أذا دخلوا جحر ضب لدخلتموه...) .. وفعلا قام المسلمون من بعده باتباع سنن من قبلهم في التحريف والتزوير وفعلوا افعال المحرفين من الامم السابقة وجعلوا من دينهم دين مسخ متناقض يحتار المتأمل فيه حيرى كبيرة قد تأخذ مدة حيرته عمره كله فلايهتدي لتضارب الحوادث وتناقض التفسيرات وهو عين مافعل السابقون من الملل الاخرى, وهو شبيه لما تطرقت اليه بقولك أنه من الصعب انتشال الحقيقة من نصوص اصلية مختلطة مع نصوص مزورة.
السوسنة في مقالتك القيمة والشيخان الاثمان لهما شبيه في تراث المسلمين انفسهم , فالزهراء فاطمة صلوات ربي عليها وعلى بنيها مرت بما مرت به السوسنة والشيخان الاثمان اولهما سلب ارض السوسنة ومثله فعل الخليفة الاول ابوبكر حين سلب ارض فدك من الزهراء ع , أما صاحبه عمر بن الخطاب فقد حذا حذو الشيخ الثاني في رواية السوسنة .
سبحان الله تتشابه الحوادث وكأنها تقرع رؤوس الاجيال لتذكرهم بالمظالم التي مرت , فهل يأخذونها بنظر الاعتبار..
تحية لقلمك المغني والمحمل بالمعارف