الذين أضاءوا طريق العميان... بين خيانة الراعي وصمت السوق ونداء الأرملة
حسين النعمة
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
حسين النعمة

الأمم لا تُصنع من الكلام؛ بل من المواقف التي تعبر النهر بين الخوف والكرامة؛ من قصة الراعي الذي باع ثائراً لأن معاركه كانت تُرعب أغنامه، إلى التجار الذين تركوا قائدهم يواجه حبل المشنقة وحيداً، يتجلى تاريخ البشرية بين خيانةٍ ناعمة وبطولةٍ تُذبح على أبواب الصمت. إنها خلاصة تجربة إنسانية حين تتصارع المصالح مع الضمير، وحين يصبح الدفاع عن الحق تهمةً، والسكوت عن الظلم ذكاءً.
لكن في هذا البلد، بين رائحة التراب ودم الشهداء، هناك من كتبوا نصاً آخر للتاريخ… أولئك الذين حملوا على أكتافهم ما خذله الآخرون — رجال الحشد الذين أعادوا للبطولة معناها، وللأرض نبضها.
مشهد أول: تشي جيفارا والراعي – الخوف كدينٍ يوميٍّ يُعبد من دون وعي
كان تشي جيفارا يرفع عينيه نحو الجبل وكأنه يودّع فكرةً، لا حياة، حين أُمسك به بعد أن خانه راعٍ يرتجف، سُئل الرجل بذهولٍ يشبه الاتهام:
«كيف تخون من دافع عنك؟»..
قال ببرودٍ أشبه بالرماد: «معاركه أرعبت أغنامي!».
يا لسخرية القدر.. كم من أممٍ لا تزال تختبئ خلف قطيعها!
في تلك الإجابة ماتت الثورة في فم الخوف، وصار الراعي رمزًا لجيلٍ يختار سلام أغنامه على صخب الحرية.
مشهد ثاني: محمد كريم والسوق الصامت – موت الوطن على أرصفة البيع
في الإسكندرية، كان محمد كريم يسير مكبلاً بين جنود نابليون.
لم يكن يطلب نجاةً، بل وفاءً بسيطًا من أولئك الذين حماهم من مدافع الغزاة.
لكن السوق ظل مشغولًا بحساب الأرباح، كأن الوطن مجرد صفقة مؤجلة.
عاد إلى نابليون خائبا، فقال الغازي ببرود المنتصر:
«لن أقتلك لأنك قاتلت ضدنا؛ بل لأنك ضحيت من أجل شعبٍ جبان».
تلك الجملة لم تكن إدانةً لكريم؛ بل نعياً لأمةٍ نامت على وسادة المصلحة.
مشهد ثالث: الحشد... حين أفاقت البطولة من رماد التاريخ
في عراقٍ آخر، بعد قرونٍ من تلك الخيانات، استيقظ الضمير من نومه الطويل.
جين ركض الحشداوي نحو مفخخةٍ مشتعلة، لا ليموت؛ بل ليمنع الموت من الوصول إلى الآخرين.
وذاك الذي انحنى بجسده أمام مؤخرة شاحنةٍ كبيرة لتقل النساء الى مناطق آمنة، ليكون عتبةً للنساء المثبورات، صعدن على ظهره إلى الأمان، فصار جسده سلّماً إلى الحياة.
وثالثٌ حمل بيده قنينة ماءٍ ليسقي بها حيواناً وحيدا على جادة الطريق، نجا من نيران العطش، لأنه يعلم أن الرحمة لا تقل بطولةً عن القتال.
وغيرهم كثير... رجالٌ عابرون بين النار والنجاة، كانوا يكتبون بسواعدهم فصلًا جديدًا من معنى الإنسان.
كل لحظةٍ فيهم كانت نقيضًا لتشي بالذي خانه راعيه، ولنهاية محمد كريم الذي خذله سوقه.
لقد أفاقت الأمة أخيرا على حقيقةٍ دامغة:
أن البطولة ليست صدى صوتٍ قديم، بل نبضا يعيش في أذرع أبنائها.
مشهد رابع: الأرملة وأطلال الشهيد – مناجاة على تخوم الوجع
في قريةٍ صغيرةٍ هدأ فيها الصخب برهةً، جلست أرملةٌ أمام صورة زوجها الشهيد.
كانت الريح تلامس حجابها كما لو أنها رسالة من الغائب.
فقالت بصوتٍ يرتجف بين الحب والخذلان:
«عد يا من تركتَني لأحكي عنك، فقد نسي بعضهم أنك متَّ لأجلهم... نسوا العطش الذي سقاه جسدك، والرصاصة التي فتحت للبلاد شباك أملٍ جديد».
ثم بكت، لا لأنها ضعفت، بل لأن الذاكرة خانت من كان يجب أن تبقى أسماؤهم على جبين كل شارع.
هكذا تمضي الدروس من جيلٍ إلى جيل:
بين راعٍ خائف، وتاجرٍ صامت، ومقاتلٍ حمل وطنه على كتفيه، وأرملةٍ تنادي في الفراغ.
لكن الحقيقة تظل تلمع مثل سيفٍ في العتمة:
الكرامة لا تُورّث؛ بل تُصان بالدم.
والوطن لا يُبنى بالحياد؛ بل بالعطاء الذي لا ينتظر مكافأة.
لنحفظ للحشد ولأولئك الذين مضوا، امتنانا لا يشبه الشكر؛ بل يشبه العهد:
أن نبقى أوفياء للدماء التي سقت أرضنا..
وللرجال الذين اختاروا أن يكونوا سلّم النجاة بدل أن يكونوا راحة القطيع.
فمن لا يتعلّم من بطولاتهم.. سيبقى راعيا لأغنامه... في وطنٍ لا راعي له.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat