حيدر السلامي… صدمةٌ تكتبني في دائرة لا تُكسر
حسين النعمة
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
حسين النعمة

أن تكتب «أنا في قبضة الصدمة: دائرة لا تُكسر» ليس مجرّد تصريحٍ بالوجع، بل هو اعترافٌ يعرّي الذات من كل أقنعتها، ويضعها وجهًا لوجه أمام ارتطامها العاري بالفقد. الصدمة هنا ليست حدثا عابرا يُستوعب بمرور الأيام، بل كيانٌ تجذّر وتغذّى من تكرار الذكرى، ويعيد تشكيل اللحظة كلما حاولت الروح أن تتنفّس.
كم هو قاسٍ هذا التصريح بالذات ـ في لحظة الانكسار ـ نعم.. هو تصريح وفعلٌ شجاع بقدر ما هو فعلٌ متهالك؛ فالكلمة تتحوّل إلى مرآة لا تُخفي انعكاس الانهيار، حتى يصبح الكاتب نصَّه، لا يحكي عن الغياب بل يحيا داخله، يطوف في دائرته المغلقة بين دمعةٍ مؤجَّلة وصمتٍ مبتلّ بغيابٍ لا يُبرأ منه.
إنها كتابةٌ في قلب الإعصار: حيث لا بداية ولا نهاية، بل دورانٌ أبديّ للوجع. كل جملةٍ تُسطَّر هنا ليست محاولةً للنجاة، -بل طريقةٌ لتسمية ما لا يُسمّى، والتصريح بما يتوارى عادةً خلف الأقنعة: أنا في قبضة الصدمة… دائرة لا تُكسر.
أجلس في منتصفها كمن يجثم على حافة ليلٍ طويل؛ كتفي مثقلٌ بسهدٍ يقودني، وصدرٌ ممزق بأضلاعٍ تكاد تنفرط من وطأة الحزن. أكتب بحبرٍ كأنّه دمعةٌ تُسكب على الورق؛ حروفي تأخذ نفسًا واحدًا بين بكاءٍ مكبوتٍ وتهدّجِ صوتٍ لا يُسمع. عيناي سودوان من السهر، وجفناي عاريان من السكينة؛ أهبُّ عينيّ للريح كمن يطلب إذنًا بالمرور إلى الغائبين.
أضع يدي على مشجب الانتظار، وأعلّق عليه كلماتٍ مؤجَّلة، ثم أعود لأشطب وأعيد، وكأنّ كل سطرٍ قطرةٌ تستنزف جذري، وكل ختمٍ للنص يفتح بابًا لدائرةٍ أخرى من النياح. ورغم الصمت الذي أخرسني من الخارج، ثمّة حراكٌ داخليّ كثيف: لَفظٌ غير مسموع، توقٌ متصلّب، وكتابةٌ بمثابة اغتسالٍ بغيابٍ لا يزول. أكتب لأستعيد شيئًا من ذاتي، أو لأطوّف على جرحي بما تبقّى من كلماتٍ تستنزف حروفا في رحيله..
الدائرة التي لا تُكسر ليست شكلًا هندسيًا وحسب، بل هي استعارة عن زمنٍ مجمَّد، زمنٍ يدور حول نفسه ويعود دومًا إلى نقطة الفقد الأولى. إنّها صدمة لا تهدأ، لأن كل دوران فيها يشحن الوجع من جديد، فيجعل الغياب حاضرًا لا يغادر، ويحوّل الذاكرة إلى جرحٍ يتفتّح كلما حاول أن يلتئم. في هذه الدائرة لا يُمحى الحزن، بل يتكاثر مع كل التفافة، كأنّ الروح عالقة في لحظة أبدية لا تعرف خطًّا مستقيمًا ولا مخرجًا.
ومن هنا أكتب مرثيتي؛ أكتب من داخل الدائرة، لا من خارجها. أكتب وأنا أحمل صمتي المبلّل، ودمعي المؤجَّل، وأضلعي المعلَّقة على غيمةٍ من صبرٍ أثقل من احتمالي. أكتب لأسمّي الألم وهو يتكرر، لأعيد تشكيل غيابه بالكلمات، وأحيا في نصّي كما أحيا في دائرةٍ لا تُكسر.
أنا في قبضة الصدمة… دائرة لا تُكسر.
كلما حاولت أن أخرج، يعيدني الحنين إلى نقطة الغياب الأولى. كلما توهّمت النجاة، تنكسر خطواتي على مشجب الانتظار. الليل يقودني بسهدي، والريح تحمل جفني إلى الغائبين، والصمت يبلّلني كاغتسالٍ أبديّ لا يُطهّرني من وجعه.
بالأحلام وحدها أقاتل حقائقي الأشد قسوة، أعلّق أضلعي على غيمةٍ من صبر، لكن الغيمة حين تهطل تنكسر الضلوع تحتها. كل قطرةٍ تستنزف جذري، وكل جذعٍ يتهاوى فوق عشب الصابرين، كأنني رهنٌ للأرض التي لا تحتملني، وللسماء التي لا تفتح أبوابها..
بالأحلام وحدها أقاتل حقائقي الأشدّ قسوة؛ كأنّ الليل يقودني بسهدي، والجفن عارٍ من السكينة. أهب الريح جفني لعلّها تعبر إلى الغائبين، وأؤجّل دمعي على عتبة الانتظار. أعلّق أضلعي على غيمةٍ من صبر… لكن، هل للأضلاع أن تحتمل انهمار الصبر إذا انفتح؟..
كلّ قطرةٍ تستنزف جذري، وكلّ جذعٍ يتكئ على عشب الصابرين، كأنني مرهون للأرض والسماء معا.
منذ رحيله أخرست صوتي، وتركت للصمت أن يبلّلني، كمن يغتسل بغيابه ولا يبرأ… كأنّ الرثاء دائرةٌ لا تنغلق؛ تبدأ من غيابه وتعود إليه، ثم تظل تدور في داخلي، لا أوّل لها ولا آخر.
أقاتل بأحلامي ما لا يُقاتَل، أضعف أمام الحقائق فأحملها على سهدي، فيقودني الليل بجفنٍ عارٍ من الأمان. أعير الريح عيني لعلّها تمرّ على الغائبين، وأعلّق دموعي على مشجبٍ مؤجَّل؛ فكلّ بكاءٍ مؤجَّل يصبح نهرًا في داخلي.
أعلّق أضلعي على غيمة صبر، لكن الغيمة حين تهطل تنكسر الضلوع تحتها. كلّ قطرةٍ تسلبني جذري، وكلّ جذعٍ يتهالك فوق عشب الصابرين، كأنني رهنٌ للأرض التي لا تحتملني، وللسماء التي لا تفتح أبوابها.
منذ رحيله صرتُ أخرس من الداخل؛ صمتي مبلّل بغيابه، وغيابي ممتلئ بصمته. أعود من الدمع إلى الصمت، ومن الصمت إلى الغياب، ومن الغياب إلى الدمع… دائرةٌ لا تُكسر، ونواحٌ لا ينتهي.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat