كتابات في الميزان
كتابات في الميزان

ضجيج الانتخابات.. بين الصمت والاختيار

 في مواسم الانتخابات، يعلو الضجيج حتى يخال للمرء أن الوطن صار ساحة صدى، تتردد فيها الوعود والشعارات أكثر مما تُزرع فيها النوايا. تُفتح المنابر على اتساعها، وتُساق الخطب كما تُساق القوافل القديمة: كثيرٌ من الكلام، وقليلٌ من الصدق. وبين من يلوّح بإصبعه استعدادًا ليختار، ومن يضم يده احتجاجًا ليقاطع، يقف الوطن مترقبًا بين الأمل والخذلان.

ثمة من يؤمن أن في الاختيار حياة، وأن الصندوق – مهما تلطخ غباره بالخذلان – ما زال يحمل بذرة التغيير. هؤلاء لا ينتخبون من أجل المرشح، بل من أجل فكرة ما زالت تنبض: أن الإصلاح ممكن، وأن النقاء لم يُقتل بعد في هذا البلد الذي أنهكته الخيبات. إنهم يقترعون كمن يُلقي رسالة في البحر، لعلها تصل يومًا إلى شاطئٍ لا يعرف الغدر.

وفي الجهة الأخرى، يقف من قرر أن يصمت. لا لأنهم لا يحبون وطنهم، بل لأنهم تعبوا من رؤية الأسماء تتبدل والوجوه تتكرر. رأوا الفساد يبدّل ألوانه كما الحرباء، والولاءات تُباع على أرصفة المصالح. أولئك المقاطعون ليسوا خارج الزمن، بل داخل الجرح ذاته. صمتهم صرخة أخرى، تقول إنهم لم يعودوا يلمسون الخير بين أكثر المرشحين، ولا يريدون أن يمنحوا أصواتهم لمن لا يسمع سوى صداه.

لكن بين ضجيج المهرجانات الانتخابية وهدير السخط الشعبي، ثمة طريق ثالث، ضيق كالأمل، لكنه الأكثر صدقًا: طريق الاختيار الواعي. فالانتخاب ليس طقسًا روتينيًا، بل فعلُ مسؤولية أخلاقية ووطنية. أن تنتخب يعني أن تمنح البلاد فرصة، لا أن تمنح شخصًا سلطة. أن تبحث عن الجيد، النزيه، القوي، الوطني، الذي لا يميز عرقًا ولا ينحاز لقومية، بل يرى في التنوع العراقي نسيجًا مقدسًا لا يُمسّ.

الانتخابات ليست سباقًا للأقوياء، بل امتحانٌ للضمائر. من يبيع صوته، يبيع مستقبله، ومن يقاطع دون وعي، يمنح الفاسدين فرصة جديدة للتسلل عبر الصمت. أما من يختار بحكمة، فإنه يضع لبنة صغيرة في جدار الوطن الذي نريد.

في نهاية المطاف، لن تنقذنا الشعارات ولا المقاطعة وحدها، بل النية الصافية التي تبحث عن من يخدم لا من يتسلّط، عن من يزرع لا من يسرق الحصاد.
فليكن اختيارنا شهادة حبٍّ للوطن، لا مجاملة لأحد، ولتكن أصواتنا صلاةً نكتب بها عهدًا جديدًا: أن العراق لا يُبنى إلا على أيدي الشرفاء.

الانتخابات.jpg



التعليقات

لا توجد تعليقات على هذا المقال بعد. كن أول من يعلق!