اَلنَّدَوَات وَالْوِرَشُ اَلْعِلْمِيَّةِ وَالْحُضُورِ اَلْبَائِسِ
د . محمد خضير الانباري
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . محمد خضير الانباري

وأنا أتابعُ إحدى الندواتِ العلميةِ التي عقدتها إحدى الكلياتِ الحكومية، التي تعدُ منْ أعرقِ الكلياتِ في مجالِ القانون، لفتَ انتباهي مشهدَ الحضورِ الباهتِ الذي يكادُ يخلو منْ الحياةِ الأكاديميةِ كانتْ الندوةُ تناقشُ موضوعا في غايةِ الأهمية، وهوَ الذكاءُ الصناعيُ ، وهوَ موضوعٌ يواكبُ روحَ العصر، ويعكسَ التحولُ العميقُ في ميادينِ المعرفةِ والتقنية. ومعَ ذلك، لمْ يتجاوزْ عددُ الحاضرينَ عشرةَ أشخاص، جميعهمْ منْ الأساتذة، بينما غابَ الطلبةُ تماما، وكأنَ الحدثَ لا يعنيهم.
أن هذا المشهدِ لمْ يكنْ صارما بقدرِ ما كانَ محزنا، إذْ أصبحَ العزوفُ عنْ المشاركةِ في الندواتِ العلميةِ، ظاهرةً متكررةً في الجامعات، تعكسَ فتورَ العلاقةِ بينَ الطالبِ، ومصادرِ المعرفةِ الحيةِ. لمْ يعدْ الطالبُ اليوم، يرى في هذهِ الندواتِ مصدرا للإثراءِ الفكري، بلْ ينظرُ إليها على أنها مجردُ نشاطٍ روتينيٍ لا يحملُ جديدا،- خصوصا- معَ انتشارِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعي، ومواقعُ الإنترنت التي توفرُ المعلوماتُ بسهولة ويسر. لقدْ أصبحَ الهاتفُ الذكيُ هوَ المنبرُ الجديدُ للعلم، وتراجعتْ قيمةُ الحوارِ المباشرِ والنقاشِ الأكاديميِ الهادف. إنَ المشكلةَ لا تكمنُ في الطلبةِ وحدهم، بلْ تمتدُ إلى الأساتذةِ والمحاضرينَ أنفسهم. فكثيرُ منْ الندواتِ تعاني منْ الأسلوبِ التقليديِ في الإلقاءِ والسردِ الممل، دونُ محاولةٍ لجعلِ الموضوعِ تفاعليا أوْ جذابا. كما أنَ بعضَ الندواتِ تكررَ ذاتَ العنوانينِ والمضامينِ دونَ تطويرٍ أوْ تحديث، فتفقدُ عنصرَ التشويقِ والإبداع. وما يزيدُ الأمرُ سوءا، أنَ هذهِ اللقاءاتِ كثيرا ما تنظمُ لأغراضٍ شكليةٍ أوْ بروتوكوليةٍ أكثرَ منْ كونها علمية، فتغيبُ عنها روحِ البحثِ والتجديد.
إنَ نجاحَ الندواتِ العلمية، لا يقاسُ بعددِ اللافتاتِ أوْ الصورِ التذكارية، بلْ بقدرتها على تحفيزِ الفكرِ وإثارةِ النقاشِ وتوليدِ الأفكارِ الجديدةِ ولتحقيقِ ذلك، لا بدَ منْ إعادةِ النظرِ في آليةِ تنظيمِ هذهِ الندوات، بدأَ منْ اختيارِ الموضوعاتِ الحديثةِ المرتبطةِ بواقعِ الطلبةِ واحتياجاتِ المجتمع، مرورا بطريقةِ عرضها، وانتهاءُ بخلقِ بيئةٍ محفزةٍ على المشاركة. فربما يكونُ منْ المفيدِ إضافةَ عناصرِ جذبٍ غيرِ تقليدية، كاستخدامِ العروضِ التفاعليةِ، أوْ دعوةِ شخصياتٍ مؤثرةٍ في مجالِ الموضوع، أوْ حتى تقديمِ شهاداتِ مشاركة، أوْ فرصِ تدريبٍ مرتبطةٍ بموضوعِ الندوات. كما يجبُ أنْ يتحملَ الطلبةُ مسؤوليتهمْ في الحضورِ والتفاعل، لأنَ المشاركةَ في مثلٍ هذهِ الفعالياتِ جزءً منْ بناءِ الشخصيةِ الأكاديميةِ الواعية، وليستْ ترفا فكريا. فالجامعةُ ليستْ مجردَ قاعةِ دروس، بلْ فضاءً لتبادلِ الأفكارِ وصناعةِ المستقبل.
في النهاية، يبقى الحضورُ البائسُ للندواتِ العلميةِ مرآةً صادقةً لواقعِ التعليمِ الجامعيِ اليوم، الذي يعاني منْ ضعفٍ في التواصلِ بينَ المعرفةِ التقليديةِ والعصرِ الرقمي. ولا يمكنُ الخروجُ منْ هذا الواقع، إلا بإرادةٍ مشتركةٍ بينَ الأستاذِ والطالبِ والمؤسسةِ التعليمية، لإحياءِ روحِ البحثِ العلميِ والاهتمامِ الحقيقيِ بالمعرفة، بعيدا عنْ مظاهرِ التكرار.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat