"تمشي إليك توسلاً خطواتي
وأعدها لو أنها حسناتي..."
بهذه النبرة التي تصبغ الشعر باليقين، تتجسد زيارة الأربعين المباركة كأكبر ملحمة إنسانية وروحية يشهدها العالم، حيث يتحول الطريق إلى كربلاء إلى مسرح عظيم لقصص تتجاوز حدود الطبيعة، وتحاكي الأساطير في صدقها وواقعيتها.
على امتداد مئات الكيلومترات، تمتد أنهار بشرية لا تنقطع، رجال ونساء وأطفال، شباب وشيوخ، عرب وأعاجم، مسلمون وغير مسلمين، كلهم يسيرون بخطى متعبة، لكن قلوبهم تفيض طاقة لا تعرف الكلل. إنهم يرددون بأجسادهم قبل ألسنتهم: "لبيك يا حسين".
عجائب على الطريق..
قد يظن البعض أن السير أيامًا وليالي تحت شمس العراق الحارقة أو برده القارس أمر فوق طاقة البشر، لكن الطريق إلى الحسين عليه السلام يمحو هذا الظن. هناك، ترى عجوزًا محدودة الظهر، تخطو خطواتها البطيئة بثبات، تمسك عصاها وكأنها تمسك بعمود من نور، تقطع الأيام وهي مسنة مريضة، لكن عينيها تتقدان بحياة لا تخمد.
وعلى جانب آخر، يسير شيخ على عكازتين، فقد ساقه في حادث أو حرب، لكنه لم يفقد قلبه، يمضي مبتسمًا كأن المسافة إلى كربلاء هي مسافة العمر كله. وهناك زائر من الكويت، مريض سابق، جاء يفي بنذر قديم بعدما استجاب الله دعاءه بشفاعة الحسين، يمشي ودموعه تختلط بابتسامته في مزيج من الامتنان والانتصار.
وإلى جانبهم، ترى مسنًّا يسير وقد فتح بين يديه كتاب "زيارة الأربعين"، يقرأه بصوت خافت كأنما يطرز الدرب بآيات الوفاء، بينما آخر يرفع صوته بتلاوة القرآن الكريم، يترحم على شهداء العراق في كل صفحة، فيصير الطريق مجلسًا للذكر والدعاء، كما هو مجلس للمسير والخدمة.
براءة الأطفال تخدم الحسين
على الطريق، تقف طفلة لا تتجاوز العامين من عمرها، ترفع بيديها الصغيرتين مناديل ورقية للزائرين، لا تعرف شيئًا عن طول المسير ولا عن حرارة الظهيرة، لكنها تعرف أن تقديم منديل قد يمسح عرق خادم الحسين له قيمة بحجم السماء.
وفي زاوية أخرى، تحمل طفلة أخرى سلة من التين، توزعها بضحكة واسعة، كأنها توزع الحلوى في يوم عيد.
كرم يتحدى المسافات
تجد رجلاً يصرّ على ألا تمرّ أمام بيته إلا وتشرب الماء أو تبيت ليلتك، وآخر لا يتركك إلا بعد أن تتناول شيئًا من طعامه، وثالث يفاجئك بخدمة المساج والتدليك ليريح أقدامك المتعبة، وكأن الطريق نفسه صار بيتًا كبيرًا للحسين، وأهله هم أصحاب الضيافة.
ولعل أروع المشاهد حين يسجد زائر عند أول خطوة يضعها على أرض العراق، شاكرًا لله أن منحه فرصة الوصول إلى الإمام الحسين، وكأن السجدة هي ختم الدخول إلى أرض الوعد.
المواكب... قلوب تنبض بالخدمة
المواكب الحسينية على جانبي الطريق تحولت إلى ما يشبه "ترندات" حيّة، كل موكب يتفنن في طريقة الخدمة: طعام، شراب، علاج، أماكن استراحة، مواكب عزاء، مواكب إنشاد، وأخرى تقدم خدمات مبتكرة لا تخطر على البال.
أنهار البشر من كل فج عميق
ليس المشهد مقتصرًا على العراقيين، فالجاليات العراقية والعربية والإسلامية من بلاد الغرب والمشرق حاضرة بقوة، يسيرون بأعلامهم ولهجاتهم المختلفة، في مشهد يثبت أن الحسين صار لغة عالمية يتحدثها القلب قبل اللسان.
جيش وحشد... أهازيج الاستقبال
وعلى الحدود، يستقبل أبناء الجيش العراقي والحشد الشعبي مواكب الزائرين بالأهازيج، يرفعون أصواتهم بالمحبة والامتنان:
"الكاصد ابن الزهرة اعله الراس انشيله"
فيغدو الاستقبال لوحة من الفخر الوطني والحب الديني.
خطباء على الطريق
وتجد خطيبًا حسينيا كبيرًا، اعتاد أن يعتلي المنابر في المجالس، يترك الميكروفون جانبًا هذه المرة، ليقف على الطريق يقدم الماء والطعام بيديه، وكأنه يجسد ما يصدح به في خطبه: أن خدمة الزائرين شرف لا يوازيه شرف.
ديانات تتلاقى عند الحسين
والمشهد الأعمق حين ترى المسيحيين والصابئة وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى يسيرون أو يخدمون على الطريق، وكأن الحسين عليه السلام جمعهم جميعًا في مائدة إنسانية واحدة، مائدة قوامها التضحية والحب والعدل.
خاتمة تأملية..
وكأن البيتين اللذين قال فيهما الشاعر:
"تمشي إليك توسلاً خطواتي
وأعدها لو أنها حسناتي"
هما لسان حال ملايين السائرين، كل واحد منهم يحمل في قلبه يقينًا أن الطريق إلى الحسين هو طريق إلى الله، وأن كل خطوة، مهما كانت متعبة أو بطيئة، هي ريشة في لوحة أبدية يرسمها العاشقون على أرض العراق.
هنا، تتساوى خطوات العجوز مع وثبات الشاب، وابتسامة الطفلة مع دمعة المريض، وهنا تصبح المسافات مجرد جسر من نور، يقود من الدنيا إلى الخلود. في الأربعين، تمشي الأرواح قبل الأقدام، ويصير العناء زينة، والعرق بركة، والدرب صلاة طويلة لا تُختتم إلا عند ضريح الحسين عليه السلام.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat