صفحة الكاتب : رياض سعد

قطع أرزاق العراقيين: بين عبث البلديات وعجز الدولة عن ايجاد بدائل حقيقية
رياض سعد

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

منذ عام 2003، دخل العراق في دوامة اقتصادية خانقة جعلته رهينًا لمورد واحد يكاد يكون الأوحد: النفط ... ؛  إذ تعتمد الموازنة العامة بنسبة تقارب 95% على صادرات النفط الخام، بينما يُسد العجز المتبقي عبر فرض الضرائب والرسوم والغرامات الباهظة على المواطنين، وكأن الدولة قد وجدت في جيب المواطن المرهق خزينة بديلة عن التنويع الاقتصادي...!!

في المقابل، فإن حال المواطن العراقي – وخصوصًا أبناء الأغلبية العراقية المغبونة – لا يخفى على أحد : فهم بين موظف يعيش على راتب بالكاد يكفيه وسط تضخم الأسعار، أو متقاعد تآكلت مدخراته، أو مستفيد من منحة الرعاية الاجتماعية التي لا تسمن ولا تغني من جوع... ؛  كل هذا في ظل قطاع عام متضخم حد اللعنة ... ؛  يرزح تحت البيروقراطية والروتين، بعيدًا عن أي مفهوم حقيقي للحوكمة الإلكترونية أو روح القرن الحادي والعشرين، غير منتج بالمرة ... ؛ ومع ذلك لم يتمكّن من استيعاب طاقات أبناء الأمة العراقية، تاركًا شريحة واسعة من الشباب بلا عمل أو وظيفة.

وفي ظل هذه البطالة المهددة للاستقرار الاجتماعي، لجأ كثير من العراقيين إلى حلول فردية ومبادرات ذاتية، فافترش بعضهم الأرصفة كباعة متجولين، وأقام آخرون بسطات وجنابر وأكشاك صغيرة، فيما استغل آخرون أراضٍ فارغة لتشييد محالّ ودكاكين بسيطة يمارسون فيها أنشطة تجارية متواضعة، طلبًا للرزق الحلال، بعيدًا عن كاهل الدولة العاجزة.

لكن هذه الجهود الشعبية لم تصمد أمام جرافات البلديات وأمانة بغداد، التي تشن – بشكل شبه دوري، وغالبًا قبيل كل دورة انتخابية – حملات إزالة قاسية تطال هذه البسطات والمحالّ، من دون أي تعويض أو توفير بدائل، وكأن المطلوب هو قطع شريان الرزق الأخير لآلاف العوائل... ؛ و هذه الحملات لا تراعي أن أصحاب هذه المشاريع الصغيرة هم في الغالب ممن فشل القطاع العام في استيعابهم، وأنهم لم يجدوا أمامهم سوى هذه المهن البسيطة لتأمين لقمة العيش.

المفارقة أن الحكومة ، بدلًا من دعم القطاعات الإنتاجية – زراعية كانت أو صناعية أو تجارية أو سياحية – يسير بخطى ثابتة نحو تدميرها، مع تكريس اعتماد شبه كامل على الواردات الأجنبية، والعمالة الوافدة، والجاليات الغريبة، وهو ما يضعف الاقتصاد الوطني ويزيد تبعية البلاد لجيرانها وللقوى الخارجية... ؛ و هذا النمط يفتح الباب واسعًا أمام انزلاق الشباب العاطل إلى الجريمة أو الإدمان أو التطرف، في ظل غياب مسارات عمل كريمة.

أليس الأولى بالحكومة العراقية، وهي التي لا تتردد في تقديم مساعدات سخية لدول أخرى تحت ذرائع دينية أو قومية أو إنسانية، أن تبدأ برعاية مواطنيها أولًا؟

أليس بإمكانها – بدل الهدم والمنع – إنشاء أسواق مخصصة للباعة المتجولين، أو بناء مجمعات تجارية صغيرة بأسعار رمزية، أو توفير عربات بيع متنقلة مجهزة، إما مجانًا أو بالتقسيط الميسر؟

إن دعم القطاع الخاص لم يعد ترفًا، بل ضرورة وطنية وأمنية، لأن أي اقتصاد يُبنى على النفط وحده، ويقتل المبادرة الفردية، ويحارب التجارة الصغيرة، إنما يزرع بذور الفوضى في تربة المجتمع، ويُبقي العراق أسير أزمات متجددة... ؛  فالمطلوب ليس تفليش دكاكين الناس، بل تهديم العقلية الإدارية المتحجرة التي ترى في المواطن عائقًا بدل أن تراه شريكًا في البناء.

إليكم تحليلًا شاملًا مدعومًا بالبيانات لتغطية المحور الاقتصادي والإحصائي:

1. رسم الاقتصاد العراقي: هشّ ومركّز على النفط

يُقدّر أن قطاع النفط يُشكّل حوالي 60% من الناتج المحلي الإجمالي في السعر الجاري، بينما لم تتجاوز مساهمة القطاع الصناعي 1.5% فقط، ما يعكس اختلالًا هيكليًا مزمنًا في الاقتصاد العراقي.

القطاع غير النفطي يساهم بنحو 57% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ 69% في دول مشابهة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

القطاعات غير الرسمية واسعة الانتشار، تشير التقديرات إلى أن 80% من الأعمال في العراق غير رسمية، وفقًا لمسوح أجرتها منظمة العمل الدولية بالتعاون مع الإحصاء المركزي وبرامج التنمية.

وفي بلدان مشابهة، مثل الجزائر وتونس ومصر، قد يصل حجم الاقتصاد الموازي إلى 30-35% من الناتج المحلي، ما يعكس احتمالية ارتفاع هذه النسبة في العراق.

2. بطالة متصاعدة وأرقام متباينة

وفقًا لمنظمة العمل الدولية وبيانات مواقع اقتصادية، بلغت نسبة البطالة في العراق 15.5% عام 2024، بارتفاع طفيف عن 15.4% في 2023، بينما كان المتوسط منذ 1991 نحو 10.15%.

مصادر حكومية عراقية، كما ورد في "IraqiNews.com"، ذكرت أن البطالة انخفضت إلى 13.4–13.0% في 2024؛ بعض الإحصاءات تشير إلى 13% تحديدًا.

في المقابل، تقرير لمؤسسة Future Iraq Foundation توقع أن تصل البطالة إلى 16.3% في 2024، وهو أعلى مستوى في العقد الماضي.

الواقع الحقيقي يتسم بالتباين، لكن المؤكد أن البطالة تتراوح بين 13% و16%، مع احتمالية تفاقمها في الأوساط الشابة.

3. القطاع غير الرسمي: مظلة للبطالة... لكن بثمن

نحو 5.73 مليون شخص، أي ما يزيد عن ثلثي القوى العاملة العراقية، يعملون في السوق غير الرسمي، وفقًا لتقرير مسح القوى العاملة لعام 2021.

هذا القطاع، رغم أنه يؤمِّن مصدر دخل للبسطاء، لكنه لا يوفر تغطية اجتماعية، ويحرم العمال من حقوق العمل والعقد والضمانات.

توصيفات استراتيجية التحول: خيار مؤجل أم ممكن؟

عُقد مؤتمر وطني في أكتوبر 2024 بالشراكة بين المنظمة الدولية للعمل والحكومة العراقية لدعم استراتيجية لتقنين الاقتصاد غير الرسمي، وزيادة الحماية الاجتماعية للأفراد.

تمّ التأكيد على ضرورة تسهيل إجراءات التسجيل، وإقرار قانوني يُسهّل إدماج الصغار في الاقتصاد الرسمي عبر الحوافز والتأمينات، بما في ذلك قانون الضمان الاجتماعي الجديد لعام 2023.

الخلاصة والتوصية

الفوضى التي ترافق حملات إزالة البسطات والمحلات ليست مجرد إساءة للأفراد، بل عرقلة لآخر المورد الوحيد المتاح لألوف العراقيين... ؛ و الاقتصاد العراقي لا ينهض بدون تنمية القطاع الخاص وتفعيل المبادرات الشعبية ... ؛ ويجب دمج هذه الجهود ضمن اقتصاد رسمي – مدعوم بحوافز، تأمينات، ودعم تشريعي – يشكّل مدخلًا لاستعادة توازن الاقتصاد، والبدء فعليًا في بناء دولة قادرة على التنمية والإنتاج المستمر.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


رياض سعد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/08/13


  أحدث مشاركات الكاتب :

    • الكتابة كقَدَر: من حبر الذات إلى وجع الوطن (4)  (المقالات)

    • ثمن اغتصاب السلطة وثمن الخضوع لها: قراءة تاريخية في إرث الدولة الأموية بين الدم والبطش والانقسام  (المقالات)

    • عقدة الدونية في الوعي الجمعي الشيعي العراقي: تحليل نفسي- اجتماعي - تاريخي- سياسي  (المقالات)

    • معاداة الشيعة : الطائفية السياسية السنية وأوهام العداء لإيران  (المقالات)

    • عقدة اللااتفاق العراقي: بين شتات الهوية العراقية وبوصلة الوطنية المؤجلة .. خور عبد الله نموذجا  (المقالات)



كتابة تعليق لموضوع : قطع أرزاق العراقيين: بين عبث البلديات وعجز الدولة عن ايجاد بدائل حقيقية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net