الخونة الذين يشبهوننا ولا ينتمون إلينا
رياض سعد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
رياض سعد

إن أخطر ما يواجه الأوطان والمجتمعات ليس العدو الظاهر للعيان، ولا الغزو الذي يطرق الأبواب بسلاحه وجنوده، بل ذلك العدو المستتر، المتخفي بين صفوف الناس، يلبس لباسهم، ويتكلم بلسانهم، ويتشبه بهيئتهم، غير أنه يختلف عنهم في جوهره وسريرته وانتمائه. هذا العدو الخفي هو الخائن، الذي يبيع ضميره وقيمه ووطنيته في سوق المصالح الضيقة أو لأجهزة الاستخبارات الأجنبية، فيتحول إلى أداة لهدم بنيان الأمة من الداخل.
لقد علمتنا التجارب التاريخية أن الخيانة ليست مجرد فعل فردي أو نزوة عابرة، بل هي منظومة متكاملة تتغذى على ضعف النفوس وتكاثر الأزمات، وتستثمر في هشاشة المجتمعات وانقسامها. فالخائن ينشأ حين يفقد الإيمان بالانتماء، ويستبدل الولاء للوطن بولاء آخر، خارجي أو شخصي. وما يضاعف خطورته أنه لا يأتي في هيئة دخيلٍ غريب، بل يظهر بيننا كأحد أفرادنا، مما يصعب تمييزه أو دفع خطره في بداياته.
ومن أبلغ ما يمكن أن يُجسد هذا المعنى، تلك القصة الرمزية:
أراد الذئب أن يعلّم صغيره درساً في الحياة وفن العيش، فاصطحبه إلى قطيع من الأغنام وقال له: "لحوم هذه الأغنام لذيذة"، ثم أشار إلى راعي الغنم قائلاً محذراً: "عصا هذا الرجل مؤلمة، فانتبه أن تقترب منه." وحين لمح الذئب الصغير كلباً يحرس القطيع، قال بدهشة: "هذا يشبهنا يا أبي." فأجابه الذئب الكبير بعمق: "اهرب يا ولدي حين ترى هذا الكائن، لأن كل ما عانيناه في حياتنا كان سببه أولئك الذين يشبهوننا ولا ينتمون إلينا."
هذه القصة تختزل مأساة الشعوب حين تتعرض للخيانة الداخلية. فالخونة ليسوا غرباء يأتون بملامح واضحة العداء، بل يندسون في الصفوف، يشبهوننا في المظهر لكنهم يختلفون في الجوهر. إنهم أبناء البيئة نفسها لكن بقلوب مسمومة، يحملون وجوهاً مألوفة لكن بضمائر ملوثة، فيتحولون إلى جسور يعبر عليها الأعداء لاحتلال الأوطان أو تفكيك المجتمعات.
على المستوى السياسي، كان الخونة دوماً الأداة التي سهلت للأجنبي غزوه وهيمنته، من جواسيس الاحتلال البريطاني في القرن الماضي وقبله مرتزقة وخدم الاحتلال العثماني ، إلى العملاء من ازلام النظام البائد الذين فتحوا الأبواب أمام الغزو الأميركي، وصولاً إلى من يبرر اليوم التدخلات الإقليمية والدولية في شؤون الوطن، طمعاً في سلطة أو منفعة ... .
وعلى المستوى الاجتماعي، يشكل هؤلاء معول هدم للنسيج المجتمعي، إذ يشيعون الشك بين الناس، وينقلون الأخبار الكاذبة، ويزرعون الانقسام، حتى يصبح المجتمع فريسة سهلة أمام أي مشروع خارجي... ؛ فهم يعملون على نزع الثقة بين المواطن والدولة، وبين المواطن وأخيه، لتنهار الروابط التي تصون كيان الأمة العراقية .
أما على المستوى النفسي، فإن الخائن يعيش انفصاماً وجودياً، فهو يشبه قومه من الخارج لكنه يحمل هوية مستعارة من الداخل، هوية مفككة لا تعترف بالجذور ولا تستند إلى تاريخ. إن الخيانة في جوهرها ليست مجرد صفقة أو بيع سر، بل هي مرض نفسي عميق قوامه الشعور بالنقص، والهروب من الذات، ومحاولة استبدال الانتماء الحقيقي بانتماء زائف يمنحه شعوراً مؤقتاً بالقوة.
إن المجتمعات لا تنهزم إلا حين يكثر فيها الخونة، لأن الخارج مهما بلغ من قوة، لا يستطيع اختراق الداخل دون أدوات من أبنائه... ؛ وما يجعل خطرهم مضاعفاً أنهم يبدون في صورة المصلحين والوجهاء والناصحين، بينما في الحقيقة هم يحملون خنجراً في الظلام.
لذلك، فإن أول خطوة لحماية الأوطان هي وعي الشعوب بخطر الخيانة الداخلية، وأن تدرك أن أخطر أعدائها ليس من يأتي من وراء الحدود، بل من يعيش بينها وهو يحمل في داخله ولاءً آخر... ؛ ومثلما حذر الذئب صغيره من الكلب الذي يشبهه ولا ينتمي إليه، علينا أن نتعلم أن التشابه الخارجي لا يعني الانتماء، وأن المعيار الحقيقي هو الولاء والصدق والإخلاص للوطن.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat