التناحر الانتخابي والتعايش المجتمعي: معركة الوعي في العراق
مهند ال كزار
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
مهند ال كزار

يشهد العراق منذ عقود حالة من التذبذب بين التناحر والتعايش، وكأن المجتمع يعيش على خطين متوازيين لا يلتقيان إلا عند لحظات الانفجار أو الأمل، هذه الحالة لم تنشأ من فراغ، بل هي انعكاس لتاريخ طويل من التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي رسمت ملامح الواقع العراقي المعاصر.
التناحر صناعة السياسة وتغذية المصالح، لم يكن يوماً سلوكاً شعبياً خالصاً، بل هو نتاج هندسة سياسية ممنهجة، بدأت منذ تأسيس الدولة الحديثة وتكرست بعد عام 2003 مع نظام المحاصصة، هذا النظام جعل الانتماء الطائفي أو القومي هو المعيار الأساسي لتقاسم السلطة والمناصب، فتمزقت هوية "المواطنة" وتحولت إلى "هويات فرعية" متنافسة.
وقد لعبت الأحزاب السياسية والإعلام الموجه، دوراً مركزياً في تكريس الانقسام، من خلال خطاب التخويف المتبادل، وتقديم الآخر باعتباره تهديداً لا شريكاً، فبدلاً من أن تكون السياسة أداة لإدارة التنوع، تحولت إلى سلاح لإثارة المكونات وإشعال النزاعات لتحقيق مكاسب ضيقة.
رغم كل ما سبق، فإن التعايش في العراق ليس طارئاً، بل هو الوجه الحقيقي للمجتمع العراقي، الذي عاش قروناً بين تنوعاته القومية والدينية والمذهبية دون أن يفقد توازنه، في الحياة اليومية، تجد العراقيين يتشاركون المناسبات، ويتزاورون، ويتضامنون في الأزمات، وهو ما يعكس عمق القيم الإنسانية والاجتماعية الراسخة في الشخصية العراقية.
هذا التعايش الطبيعي تجلّى بأوضح صوره في المواجهة مع قوى الشر "داعش" التي جمعت العراقيين على كلمة واحدة "الوطن"، هناك سقطت الأقنعة الطائفية وبرزت الهوية الوطنية الجامعة، التي توحدت في مواجهة الفساد والظلم.
التناحر الانتخابي واستثمار الانقسام
مع كل دورة انتخابية يعود إلى الواجهة كأداة لإثارة العواطف والانقسامات بين الناخبين، إذ تسعى بعض القوى السياسية إلى استغلال التعدد الطائفي كوسيلة لحشد الأصوات، لا كفرصة لبناء مشروع وطني موحد، يُعاد فيها إنتاج خطاب "نحن وهم"، وتُغذّى المخاوف من الآخر، في محاولة لإحياء الانقسام بدل تجاوزه.
هكذا تتحول الانتخابات التي يفترض أن تكون ممارسة ديمقراطية راقية، إلى ساحة تناحر سياسي تكرّس الانقسام الاجتماعي بدلاً من التنافس على البرامج والرؤى، إنّ أخطر ما في هذا النهج أنه يُضعف ثقة المواطن بالديمقراطية، ويجعله يرى العملية الانتخابية مجرد معركة مصالح لا وسيلة للإصلاح، الأمر الذي يهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي معاً.
العراق اليوم أمام مفترق طرق فإما أن يستمر في دوامة الصراع التي تُبقيه رهينة للمصالح الخارجية والداخلية، وإما أن ينتصر لصوته الوطني الحر، الرهان الحقيقي يكمن في وعي الأجيال الجديدة، التي باتت أكثر رفضاً للخطابات الطائفية، وأكثر إيماناً بأن المستقبل لا يبنى إلا بالتعايش والعدالة والمواطنة.
إنّ تجاوز التناحر لا يتحقق بالقوانين وحدها، بل بالثقافة الجديدة التي تزرع في العقول فكرة أن الاختلاف ثراء لا تهديد، وأن التعايش ليس ضعفاً بل قوة حضارية.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat