يبدو أنّ هناك فكرة تسري في أروقة الحديث الشعبي كما تسري الإشاعة في مجلس قروي: "يا أخي، الشيعة ما ينفعون للحكم!"، وكأنّ هذه الجملة دستورٌ نزل من السماء مع ختم ملكي، أو أنّها حكمة أبدية تُحفر على شواهد القبور بجانب تاريخ الميلاد والوفاة.
منذ 2003، حين طُرحت أوراق السياسة أمام الشيعة لأول مرة منذ قرون، ظنّ البعض أنّ اللحظة لحظة فتحٍ إلهي، وأنّ كل من جلس على كرسي الحكم هو وليٌّ من أولياء الإصلاح، وأنّ يده إذا لمست الاقتصاد عاد من رقاده، وإذا عطس في البرلمان تحسّن الجو العام. في المقابل، صرخ آخرون: "كلهم حرامية، كلهم تجّار دم!"، وكأنّ السياسة بئر نفط شيطانية، ومن يقترب منها يخرج مُلطّخًا بالقار الأخلاقي.
بين هذا التطرف وذاك، وُلدت حالة هجينة: شعبٌ نصفه يرفع الزعيم إلى مقام الملائكة، والنصف الآخر يلعنه كما لو كان إبليس نفسه. أما العقل النقدي، فقد هاجر إلى دول أخرى أو اعتكف في غرفته يقرأ كتب التاريخ ويهز رأسه.
اليوم، هناك جيل جديد قرر أن يترك السياسة كما يترك أحدهم طبقًا فاسدًا على الطاولة: لا يريد أن يشمّ رائحته ولا حتى يقترب منه. لا اقتراع، لا ترشّح، لا محاولة لتغيير شيء. الجيل الذي كان يُفترض أن يُعيد تعريف اللعبة السياسية، قرر أن يشاهدها من مقاعد الجمهور… إن كان يحضر أصلًا.
لكن السؤال الذي لا يطرحه هؤلاء هو: وماذا بعد؟
إذا انسحب الشيعة من الحكم، هل سيتوقف العالم احترامًا لانكفائنا الطوعي؟ أم سنستيقظ ذات صباح لنجد أنّ كل ما حدث منذ 2003 قد شُطب، وعاد التاريخ بنا إلى ما قبل ذلك العام، إلى المربّع الذي كانت فيه القرارات الكبرى تُصنع في أماكن لا نعرف عنها إلا الشائعات؟
هناك برنامج منهجي ـ نعم، منهجي ـ يعمل على ضرب العملية السياسية التي قادها الشيعة، لا لتصحيحها أو إصلاحها، بل لإعادتها إلى عهد "أنت لا ترى ولا تسمع ولا تقرر". والكارثة أن بعضنا يشارك في هذا البرنامج دون أن يدري، إما بالتصفيق الأعمى، أو بالمقاطعة العمياء.
الخطر ليس في أن الشيعة قد لا يصلحون للحكم، بل في أن يقتنعوا هم أنفسهم أنهم لا يصلحون، وأن يسلّموا الراية لمن ينتظر هذه اللحظة منذ زمن طويل.
لذلك، ما نحتاجه اليوم ليس شعارات جديدة ولا موجة غضب موسمية، بل بناء وعي سياسي متماسك، وعي يفهم أنّ السياسة ليست جنة ولا جحيمًا، بل أداة. وأداة بلا وعي هي سلاح في يد خصمك، حتى لو ظننت أنك حيادي.
في النهاية، لعل السؤال الأخطر ليس: هل نحن أهلٌ للحكم؟
بل: هل نحن أهل لأن نُحكَم مرة أخرى دون أن نشارك في كتابة السطر الأول؟
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat