المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب. قبل سنوات، كتبت مقالًا بعنوان ترامب يركب سيارة سايبة، دعوته فيه إلى جولة في شوارع بغداد، داخل مركبة متواضعة لا تعرف التكييف ولا المظاهر، فقط تعكس واقعًا يتنفس غبار السياسة وسوء الطرق .
يومها أنزلته من مقامه، جعلته يشم رائحة الحقيقة، يجلس على مقعد متهالك بجوار سائق مغبر، ويدرك أن الشعوب ليست أرقامًا في تقارير المخابرات، بل بشر تُعاني من نتائج قراراته العابثة ، لم أكن أتخيل أن يأتي يوم يحمله فيه "العربان" فوق الرؤوس، يرفعونه ليُبارك عروشهم، ويُزكّي ولاءهم، ويفتحوا له أبواب سياراتهم الفارهة، لا ليقودهم، بل ليقودهم بعيدًا عن أي كرامة متبقية .
سيد ترامب، لا بد أنك مللت ركوب "السايبة" في بغداد، بكل ضجيجها ورائحتها وعرق سائقها، فصعدت هذه المرة إلى واحدة من سيارات الخليج، فارهة، مصفّحة، مكيّفة إلى أقصى برودة، ومزودة بخاصية التدليك السياسي الأوتوماتيكي كلما رفعت حاجبك أو لمّحت برغبة .
السيارة هناك لا تتعطل، بل حتى عطلها جزء من الموديل، لا تحتاج إلى ميكانيكي شعبي يضع يده في زيت المحرك، بل إلى شركة علاقات عامة تلمّعها أمام الكاميرات كلما عبست في وجه أحدهم، وهي لا تعرف الحفر، فالطرق تُفرش قبل أن تُعبد، ويُعبّد المسؤول قبل أن يُحاسب .
لكنّك نسيت، أو تناسيت، أن هذه السيارات ليست لك، أنت ضيف في المقعد الخلفي، تهمس في أذن السائق فينحرف المسار فورًا، كل وجهة لك فيها مبايعة، وكل محطة تُعلن على شاشاتهم أنها "قرار سيادي"، والخريطة تتبدل حسب مزاجك لا حسب مصالح شعوبهم .
أتذكر نزهتنا في بغداد؟ تلك الرحلة التي انطلقت من شارع مضروب ووصلت إلى منطقة خضراء لا يغادرها أحد، يومها رفضت النزول من "السايبة"، كانت متواضعة أكثر من اللازم، عراقية أكثر من اللازم، حقيقية أكثر من اللازم، قلت إنها لا تليق بك، لكنها على الأقل لم تكن مزيفة، لم تخدعك بكتيب تعليمات مصقول ولا بإطارات نظيفة، كانت فقيرة نعم، لكنها تئن بصدق .
في الخليج، السيارة تسير على بساط أحمر، لكن الطريق تحته مهزوز، الأصوات محجوزة في الصناديق، والإشارات تُدار من غرف التحكم الأمريكية، لا أحد يسأل السائق عن الاتجاه، يكفي أن تكون أنت في المقعد ليفترض الجميع أن الرحلة نحو "الاستقرار" .
أما نحن، فتعلمنا أن السيارة قديمة، والصوت فيها يعلو فوق صوت المحرك، لأن الشعب لم يعد يصدّق الخرائط ولا عناوين المؤتمرات الصحفية .
سيد ترامب، أتذكر حين عُرضت أمامك نساء الخليج كأنهن فقرة استعراضية في حفلة تنكرية، نساء منقوشات بالسيوف والذهب والبخور، يُرقّصن الكبرياء أمامك، لا احتفاء بك، بل خنوعًا لك، لم يخجلوا، بل افتخروا، قالوا لك هذه حضارتنا التي اختزلناها لك في ثوب وابتسامة وعرض مسرحي لا يشبه إلا عارهم، تُعرض النساء عندهم كديكور حداثي أمام الزوار، بينما تُسحب أصواتهن من طاولات القرار، يُنفقون على الزينة ويتجاهلون الجرح، يطربون لصوت الطبول ولا يسمعون صوت أرحام أمهات تُغتصب فيها الإرادة .
سيد ترامب، هناك فرق بين من يركب السيارة ليقود، ومن يركبها ليُقاد، هناك فرق بين بلد يختارك لتكتب له مصيره، وبلد يحاول أن يكتب مصيره رغم قلمك، العراق، حتى وهو مكسور، لا يُجيد التصفيق، ولا يُتقن التلميع، ولا يسكت عن الأذى، أما الخليج، فكل شيء فيه يُعاد توضيب معناه ليظهر بمزاجك .
أنزل يا سيد ترامب، لا تتوغل أكثر، بعض الطرق تُغلق فجأة، وبعض الشعوب تصحو فجأة، وستكتشف متأخرًا أن السيارة التي ركبتها كانت بلا فرامل، وأن من فتح لك الباب، لم يكن يرحب بك، بل كان ينتظر لحظة رميك منها دون أن ينظر خلفه .
الموضوع السابققناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat
.jpg)
