صفحة الكاتب : محمد الرصافي المقداد

عاشوراء الحسين أولى بالإحياء من أوهام الظالمين (4)
محمد الرصافي المقداد

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

الفريضة المنسيّة

هي دون أدنى شك فريضة تناستها أجيال متعاقبة، فلم تعطِها حقّها الواجب على كل مسلم، آمن بنبوّة محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وآله، دون أن تدرك خطورة ما اقترفت بحق صفوة الله سبحانه، هذه الفريضة جاءت بها آية أشادت بحكم مُلزم: ﴿ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾(1)

ففيما جاء من آيات الله البيّنات من دلائل واضحات، أشارت إلى أنّ أجور الأنبياء على ما بلّغوه من رسالاته هي على الله أجرها، من دون أن يسنده واحد منهم إلى غيره، كما في عدد من الآيات: ففي شأن نوح عليه السلام قال: ﴿قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله﴾ (2) وفي شأن هود قال: ﴿إن أجري إلا على الذي فطرني﴾ (3) وفي شأن صالح ولوط وشعيب كان موقفهم واحد: ﴿وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين﴾ (4)

بينما وجدنا نبيّا واحدا، أسند أجر تبليغ رسالته إلى قرباه، كما دلّت عليه الآية الشريفة التي افتتحتُ بها مقالي هذا، نافية ما ذهب إلى فهمه من ذهب، من مخالفي الصفوة الطاهرة من بيت النبوّة، من تعميمها على مطلق القربى، وهو محض تضليل وافتراء على الله ورسوله صلى الله عليه وآله - ويل لهم مما أسٍسوه من باطل سيطوّقون به يوم القيامة وأنى لهم الخلاص من تبعاته- وقد بيّن عدول علماء الإسلام خصوصية القربى المشار اليها في سورة الشورى، من خلال ما جاء من توضيحات النبي صلى الله عليه وآله اللفظية والعملية، بشأن عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وتأكيداته بأنهم خاصة أهله، وصفوة خلصاء دينه، فلا يرتاب مرتاب في هؤلاء الأخيار، بما حباهم الله من فضل يؤتيه من يشاء من عباده المصطفين.

لقد لبى الله سبحانه رغبة نبيه الأكرم صلى الله عليه وآله في مودّة أهل بيته عليهم السلام، ففرض على الأمّة ذلك الحبّ والتفضيل والتبجيل، وجعله لقاء ما قدّمه من جهود تبليغية وتعليمية، وتزكية أنفس لأمّة، كادت الجاهلية أن تذهب بما بقي فيها من سجايا حسنة، فكان ذلك خاصة له من دون غيره من أنبياء، آثروا أن ينالوا أجور التبليغ خاصة لهم، دون أن يمنحوا آثارها إلى غيرهم، ولو كانوا من صفوة أهلهم، وهذا يحيلنا على علم الله في غيبه، بما سينال هؤلاء الأطهار عليهم السلام من معاناة وظلم، واعتداءات سلّطها عليهم حكام أصرّوا على معاداتهم، شاركتهم في أوزارها أجيال الأمّة محاباة ومناصرة لمن ظلمهم، وأقل هؤلاء تبعة فيما اختاروه من مسلك سوء، أن سكت منهم من سكت عن تلك الجرائم المرتكبة بحقهم، أو أظهر امتعاضا منها، وتجاهل منزلتهم الرفيعة والعالية والمقدّمة عند الله، فسووهم بسائر أهل عصورهم، كأنّهم عوامّ من عوامهم، لا حظّ لهم في سابقة دين وجهاد، ولا نزل بشأنهم شيء من قرآن، ولا بيّن بحقهم سيّدهم، ما خصّهم الله به دون غيرهم من سائر المسلمين.

وبعد أن صحّ لدينا مقام أهل البيت عليهم السلام الرفيع عند الله، وعند رسوله صلى الله عليه وآله، وعند كل مؤمن ومؤمنة، مستجيبون فيه لأمر الله بشأنهم، باذلين في مودتهم مهجهم وأرواحهم، يتوجّب علينا أن نقدّر هذه المودّة حق قدرها، حتى يتسنى لنا أداؤها بما يُرْضي الله ورسوله صلى الله عليه وآله، فمودّة قربى النبي صلى الله عليه وآله تستلزم أن نضعهم في قلوبنا موضعا مميزا على أنفسنا، كما عبّر عنها النبي صلى الله عليه وآله، (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه)(5) وأكّد عليها تحديدا : (من أحبني وأحب هاذين – الحسن والحسين – واباهما وأمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة) (6)هذا الحب منبثق من قوله تعالى: ﴿إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ﴾ (7) اتّباع النبي صلى الله عليه وآله كقدوة عُليا من شأنها أن تفتح للسالك طريقا إلى رضوان الله ومحبته.

أمّا مودة أهل بيته عليهم السلام - وهم كما أشرنا إليهم علي وفاطمة وأبناؤهما- فتتجلى في اظهار مشاعر الفرح لفرحهم، والحزن لحزنهم، في مناسباتهم التي رافقت حياتهم الشريفة، وفي درجة أعلى موالاتهم وموالاة أوليائهم، ومعاداة أعدائهم، بكل ما في فريضة الولاية والبراءة من تفاصل ملزمة، وأي مناسبة فيها ما أدخل الفرح والسرور على أهل البيت عليهم السلام، كمواليدهم ومتعلّقاتهم المرتبطة بأحداث إسلامية، كانوا أساسا في إنجازها وبناء دعائمها، يجب علينا احياؤها بإظهار الفرح لها، وأيّ مناسبة فيها ما أحزن وأغمّ هؤلاء الأطهار عليهم السلام، يجب علينا بالمقابل إظهار الحزن عليهم، تضامنا معهم في محنهم وهي كثيرة، لعل أعظمها وطأة حادثة كربلاء، ومقتل الإمام الحسين عليه السلام فيها، مع ثلة من أهل بيته وخيرة أصحابه ممن ناصروه.

الحزن على هؤلاء الأطهار المظلومين، مقام لا يعي قيمته، إلا من انتمى إليه، عملا بواجب مودّة غير مستثنى منه أحد من المسلمين، وهو تعبير صادق على مواساة أرادها الله ورسوله صلى الله عليه وآله من هذه الأمّة، برهنة منها عن مكنون حبها وولائها، وتقديرها لصفوة الله، وما تختزله أيضا من أدبيات وسلوكيات، تجاه الإنسانية عامة في مظلومية أفرادها، وتعرضهم للإنتهاك من طرف شياطين الانس على كثرتهم، ومن لم تحركه مشاعره في مواساة ونصرة المظلومين، ولو بالموقف المُعبّر والعاطفة الجياشة الصادقة، فلن يحرّكه شيء مما تعانيه البشرية بعد ذلك أبدا.

وبمراجعة سريعة للقرآن الكريم، نجد أن الله سبحانه لم يمتدح فيه الفرحين في الدنيا، بل فيه تنبيههم من غفلة استكانوا إليها بتجاهل مآسي الناس كأنّها لا تعنيهم في شيء، أو هم مستثنون من الوقوع فيها، هؤلاء ذكرهم في قوله: ﴿ذلك بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون﴾ سورة غافر الآية 75 داعيا إيّاهم إلى انتهاج سبيل من اليقين بأنّ الدنيا ليست دار مقام، بقدر ما هي مجرّد معبر إلى الآخرة، وأن حركة العباد فيها من المنظور القرآني، يجب أن تكون مطابقة لقوله تعالى: ﴿لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما ءاتاكم والله لا يحب كل مختال فخور﴾ (8)

والأسى والأسف الوحيد الذي يجب أن يكون مستثنى من مقصد الآية، هو فوت فرصُ الطاعة والقرب من صراط الله المستقيم - والامام الحسين هو قطعا أحد أصحاب هذا الصراط - فمن تأخّر عن قافلة الإمام الحسين عليه السلام وهو مغادر المدينة، ثم بعد ذلك خارجا بمن معه يوم التروية، لم يدرك الفتح ولا أصاب الحج، قد خسر خسرانا مبينا، وفاته من التعلّق به فرصة كانت ستختم له بالحسنى، مع وليّ أمره وإمام زمانه، الذي اختار حركة الإصلاح في أمّة جده، مفارقا مكة صونا لحرمتها، من أن سيفك فيها دمه، موطّنا نفسه ومن معه على مواجهة الباطل بعد استشرائه.

سؤال طُرح ولا يزال يُطرح، وفي كل مرة، يكون مصدره لسان من ألسنة الأمة، أو قلم من أقلامها، دون أن يكون السائل مدركا لحقيقة أن البكاء ظاهرة طبيعية، تعتري الإنسان لفقد عزيز، أو لفوت أمر ذا بالٍ، عليه مدار حياة ذلك الإنسان، وهل يُلام من بكى على أمر أو شخص مهمّ في حياته؟ قطعا لا يُلام على ذلك، وحالة البكاء على الإمام الحسين عليه السلام، متعلقة بجوهر الدين لأن الحسين عليه السلام رمز كبير من رموزه، وعلَمٌ من أعلامه، وشعيرة من شعائره، لذلك فإن الحزن والبكاء عليه يمثل بالنسبة لمن اقتدى به ومضى على نهجه قمة الإيمان، وعلامة تقوى عُرِف بها شيعته في كل زمان، من أجل مواساة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، وأئمة الهدى من آله عليهم السلام.

من بين المكارم التي علّمنا إياها الإمام الحسين عليه السلام، والتي تصب في خانة العلاقات بين البشر، الشعور بالآخر، والتعامل معه بقطع النظر عن انتمائه الفكري أو العقائدي، وما الإنسان سوى مخلوق من مخلوقات الله تعالى، كرّمه ومنحه مكانة مُميّزة في هذا الكون، شريطة أن يحافظ على إنسانيته، التي تتألف من مجموعة قيم تميّزه عن غيره، ليبقى الإنسان انسانا بعقله ووجدانه، محافظا على فطرته التي فطرها الله عليها، ما لم يخرج عنها بحيف أو ظلم، يحوّله من إطاره الانساني، إلى إطار الشيطاني الذي فشا في المجتمعات الإنسانية.

المراجع

1 – سورة الشورى الآية 23

2 – سورة سبأ الآية 47

3 – سورة هود الآية 51

4 – سورة الشعراء الآية 145 و164 و180

5 – صحيح البخاري كتاب الايمان والنذور ج8ص129ح6632

6 – سنن الترمذي أبواب المناقب ج6ص92ح3733/مسند أحمد مسند علي بن ابي طالب ج2ص17ح576

7 – سورة آل عمران الآية 31

8 – سورة الحديد الآية 23


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الرصافي المقداد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/07/17



كتابة تعليق لموضوع : عاشوراء الحسين أولى بالإحياء من أوهام الظالمين (4)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net