الإمام زين العابدين (عليه السلام) في ظلال كربلاء
محمد قاسم الطائي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد قاسم الطائي

مادام الحديث مستطردًا في واقعة كربلاء وما حملته من أحداث ومجريات، وشخصيات صنعت التاريخ وحفظت مقاصد الدين من الدس والتزييف والتلاعب، فإنّ مقتضى التتبع والبحث في سياقاتها الروائية والتاريخية والمعرفية، التوجه نحو شخصية الإمام علي بن الحسين زين العابدين السجاد (عليه السلام)، والوقوف – ولو بشكل موجز بحسب المقام – عند ملامح تميّزه الاستثنائي، وخصائصه الاصطفائية، وما اتّسمت به شخصيته من عمق معرفي وروحي فريد.
سجّلت شخصية الإمام زين العابدين (عليه السلام) حضورًا مفصليًا ومشرقًا في تاريخ الإسلام، وخلّدت مواقف ومآثر كانت موضع إعجاب وإكبار، حتى أصبح عَلَمًا لا يُجارى في ميادين العلم والفضل والقداسة، وقد أجمع المؤرخون على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم ومذاهبهم – على سمو مكانته وتفرّده في هذه الأبعاد الساميّة. تتعدد الأبعاد الروحية والعلمية والإصلاحية والتاريخية في شخصية الإمام السجاد (عليه السلام)، وهي أوسع من أن تُحاط في هذا المقام، غير أننا نلقي عليها نظرةً إجمالية مقتضبة تُظهر شيئًا من عظمة هذه الشخصية المباركة.
الأول: الجانب الإمامي العام: من الواضح والراكز بمكان أن شخصيّة زين العابدين جمعت بين الفضائل والكمالات الذاتية كالطهر والنجابة والعلم والعبادة والمعالي الكريمة وبين المواقفة الحكيمة الهادية للحق ولشريعته السمحاء. إنّ سيرة الإمام السجاد (عليه السلام) حافلة بالعطاءات الاستراتيجية المتنوعة، سواء في ميادين الإحسان، أو في مجالات الإصلاح والتربية، ولا شك أن جانبًا كبيرًا من هذه الجهود كان مرتبطًا بموقعه في الإمامة الإلهية، تلك الإمامة التي حمّلته مسؤولية توجيه الأمة وإرشادها في أحلك الظروف وأشدّ المنعطفات، فقد قدّم الإمام (عليه السلام) توجيهات وتحذيرات بالغة المضمون والخطورة، تنبّه الأمة إلى مكامن الخطر في الثقافات الطاغوتية الدخيلة، التي تسعى إلى إهانة روح الإسلام وتشويه نهجه الأصيل. كما وجّه رسائل صارمة إلى علماء السلاطين، محذّرًا إيّاهم من الركون إلى الظلمة والدخول في دوائرهم الملوّثة، لقد تميّز خطاب الإمام السجاد (عليه السلام) بالصراحة والوضوح، لا يقبل المواربة ولا التعتيم لأنه خطاب صادر عن وعيٍ ربّانيّ وموقفٍ رساليّ لا يساوم على الحق البتّة.
قال (عليه السلام) « كفانا اللّه وإيّاكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبّارين، أيّها المؤمنون لا يفتنّنكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا المائلون إليها، المفتونون بها، المقبلون عليها وعلى حطامها الهامد، وهشيمها البائد غداً ، واحذروا ما حذّركم اللّه منها، وازهدوا فيما زهّدكم اللّه فيه منها، ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من أتخذها دار قرار، ومنزل استيطان، واللّه إنّ لكم ممّا فيها عَليها دليلاً من زينتها وتنبيهاً من تصريف أيامها، وتغيُّر انقلابها ومثُلاتها وتلاعُبِها بأهلها، إنّها لترفعُ الخميل وتضعُ الشريف، وتورد النار أقواماً غداً، ففي هذا معتبرٌ ومختبرٌ وزاجرٌ لمنتبه.. »1
وفي أحد أدعيته يتبرأ من الظلمة وأفعالهم
قائلاً:« اللهمّ إنّ الظَلَمة جحدوا آياتك ، وكفروا بكتابك ، وكذّبوا رسلك واستنكفوا عن عبادتك ، ورغبوا عن ملّة خليلك ، وبدّلوا ما جاء به رسولك ، وشرّعوا غير دينك ، واقتدوا بغير هداك ، واستنّوا بغير سنّتك ، وتعدّوا حدودك ، وتعاونوا على إطفاء نورك ، وصدّوا عن سبيلك ، وكفروا نعماءك ، ولم يذكروا آلاءك ، وأمنوا مكرك ، وقست قلوبهم عن ذكرك ، واجترأوا على معصيتك ، ولم يخافوا مقتك ، ولم يحذروا بأسك واغترّوا بنعمتك»2
الثاني :الجانب المعرفي والتربوي : ثمة مواصفات ومزايا تربوية ومعرفية رفيعة اتصفت بها شخصية الإمام زين العابدين جعلت الكثير من علماء المسلمين يعدوه من أفضل أهل زمانه علماً وفضلاً وكمالاً، فعن الزهري وهو من علماء العامة قال:« لم أدرك أحداً من أهل هذا البيت - يعني أهل بيت النبي (عليه السلام ) أفضل من علي بن الحسين (عليهما السلام)»3
وفي بعض تعبيرات الزهري أيضاً«وكان أفضل هاشمي أدركناه» وفي بعض المرويات:
إذا ذكر علي بن الحسين يبكي ويقول زين العابدين، وعن عبد العزيز بن أبي حازم قال: سمعت أبي يقول:« ما رأيتُ هاشمياً أفضل من علي بن الحسين عليهما السلام »4
وعن الشافعي-« إمام المذهب- قال علي بن الحسين أفقه أهل البيت»5
قال الواقدي:« كان - أي زين العابدين- من أورع الناس و أعبدهم واتقاهم للّه عزّ و جلّ و كان إذا مشى لا يخطر بيده»6
إنّ ما ورد من شهادات وكلمات بحقّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) ليس مجرّد مدحٍ عابر، بل هو انعكاس لما أسّسه الإمام من منظومة معرفية وتربوية رفيعة، كشفت عن أفقٍ إعلائيٍّ سامٍ وجّه به الأمّة وعلماءها نحو مدارج الكمال والفضيلة، ولولا هذا العمق العلمي والروحي الذي امتازت به شخصية الإمام، لما وجدنا أمثال الزهري وسفيان الثوري والواقدي والشافعي وغيرهم يُجمعون على أفضليته المطلقة وتفرّده بين أهل زمانه.
.
جملة من الروايات الوعظية والأخلاقية الواردة عن الإمام السجاد "ع" جاءت عن طريق الزُّهري، وبغيّة إيضاح الصورة لابد من تقديم ترجمة موضوعية بشكل موجز عن الزهري- الزهري الذي اسمه محمد بن مسلم بن شهاب" عده الشيخ الطوسي والبرقي من أصحاب الامام السجاد (عليه السلام)
قال ابن شهرآشوب المتوفى "ت:٥٨٨هــ" في المناقب، وكان الزهري عاملاً لبني أمية فعاقب رجلاً، فمات الرجل في العقوبة، فخرج هائماً وتوحش، ودخل إلى غار، فطال مقامه تسع سنين ..»7
عنِ الإمامِ الباقرِ (عليهِ السَّلامُ) قالَ:
«دخَلَ محمَّدُ بنُ مسلمِ بنِ شِهابٍ الزُّهريُّ على عليِّ بنِ الحسينِ (عليهِ السَّلامُ) وهو كئيبٌ حزينٌ،
فقال له زينُ العابدينَ (عليهِ السَّلامُ):
ما بالُكَ مَغمومًا؟
قالَ: يا بنَ رسولِ اللهِ، غُموُمٌ وهمومٌ تتوالى علَيَّ، لما امتحِنتُ به من جهةِ نَعَمي، والطامعينَ فيَّ، وممَّن أرجو، وممَّن أحسنتُ إليهِ، فيُخْلِفُ ظنِّي.
فقالَ له عليُّ بنُ الحسينِ (عليهِ السَّلامُ):
احفَظْ علَيكَ لِسانَكَ، تَملِكْ به إخوانَكَ.
قال الزُّهريُّ: يا بنَ رسولِ اللهِ، إنِّي أُحسِنُ إليهِم بما يَبدُرُ من كلامي.
قال عليُّ بنُ الحسينِ (عليهِ السَّلامُ): هيهاتَ، هيهاتَ!
إيّاكَ أن تُعجَبَ من نفسِكَ بذلك،
وإيّاكَ أن تَتكلَّمَ بما يَسبِقُ إلى القلوبِ إنكارُه، وإنْ كان عندَكَ اعتذارُه،
فليسَ كلُّ من تسمَعُه شرًّا يمكنك أن تُوسِعَه عذرًا.
ثمَّ قال:
يا زُهريُّ، من لم يَكنْ عقلُه من أكملِ ما فيهِ، كانَ هلاكُه من أيسرِ ما فيه.
ثم قال:
يا زُهريُّ، أما عليكَ أن تَجعلَ المسلمينَ منك بمنزلةِ أهلِ بيتِك،
فتجعلَ كبيرَهم بمنزلةِ والدِك،
وتجعلَ صغيرَهم بمنزلةِ ولدِك،
وتجعلَ تِربَكَ منهم بمنزلةِ أخيك،
فأيُّ هؤلاءِ تُحبُّ أن تَظلِمَ؟
وأيُّ هؤلاءِ تُحبُّ أن تدعوَ عليهِ؟
وأيُّ هؤلاءِ تُحبُّ أن تَهدِكَ سترَه؟...»8
وهذا يؤكد أن الامام يعلم بالتركيبة السايكلوجية والاجتماعيّة لشخصية للزهري، وما يواجه من مشاكل اجتماعية وأسريّة مع إخوانه واقاربه، ولذا جاءت الإرشادات السجادية مطابقة لما يعانيه الزهري من هموم وآلام نفسيّة ومجتمعية.
والمؤسف حقًا أن معظم ما نعانيه من هموم وضغوط نفسية في حياتنا اليومية يعود في جذوره إلى ثلاثة أسباب رئيسية: فضول الكلام، والتصرفات المفرطة غير المحسوبة، والتوقعات المثالية من الآخرين. فحين يفتقد الإنسان الاتزان في حديثه وسلوكه، يُحمّل من حوله ما لا يُطاق، ويُثقل نفسه بما لا يُحتمل.
ويبدو من أفق تلك الأزمنة أنّه لم يكن هناك ما يمنع الإنسان من أن يتعلّم على يد غيره، حتى لو كان ينتمي إلى مدرسة عقائدية مغايرة، بخلاف ما نراه اليوم من أجواء يهيمن عليها التعصّب الطائفي والانغلاق المذهبي – للأسف الشديد.
فالزهري، رغم كونه محسوبًا على جماعة البلاط ومقرّبًا من السلطة، إلا أنّ الروايات والتواريخ تكشف عن علاقة خاصة له بالإمام زين العابدين (عليه السلام)، تنمّ عن محبّة وتقدير بالغ، وقد صرّح السيد الخوئي (رضوان الله عليه) بذلك، فقال:«الزهري وإن كان من علماء العامة، إلا أنه يظهر من هذه الرواية وغيرها، أنه كان يحب علي بن الحسين (عليه السلام) ويعظّمه.»9
الثالث: المجتمع والاُمــة : لم يكن الإمام السجاد "ع" بمعزل عن الأحداث والظروف التي مرت بها الأًمة الإسلاميّة- آنذاك- "لقد امتدّت معاناة الإمام زين العابدين (عليه السلام) منذ واقعة كربلاء، بما حملته من مآسي وآلام، حيث شهد بعينيه فاجعة مقتل أبي الضيم، سبط النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، الإمام الحسين (عليه السلام) وما تلاها من مآسي السبي والنيل من حرمة بيت النبوّة، فكانت هذه الأحداث المؤلمة جراحًا مفتوحة في قلبه الشريف، لم تفارقه شجونها ولا آهاتها طوال سنيّ حياته.
ثم عاش الإمام (عليه السلام) محنة الدولة الأموية، بكل ما فيها من ظلمٍ وفسادٍ وقمعٍ للحريات، وهي المرحلة التي شكّلت ابتلاءً عظيمًا لمسيرة الإسلام، وأفرزت سلسلة من الثورات والانتفاضات الشعبية الغاضبة، مثل: ثورة أهل المدينة ومجزرة واقعة الحرّة، وثورة التوابين، وثورة المختار الثقفي، وغيرها من الحركات الرافضة للطغيان الأموي.
وفي خضمّ هذه المحن، لم يكن الإمام السجاد (عليه السلام) في عزلة عن مجتمعه، بل قام بوظائف اجتماعية وإنسانية كبرى، نذكر منها:
رعاية المحتاجين والتكافل الاجتماعي: حيث كان (سلام الله عليه) يؤمّن للمحتاجين سُبل العيش الكريم، ويقضي حوائجهم، بعيدًا عن الأضواء، وبتواضعٍ جمّ.
نشر العلم والمنهج العبادي: كرّس الإمام سياسة التعايش السلمي، وبثّ روح الإسلام الصحيح، من خلال حلقات التعليم، وبالتركيز على الدعاء والتربية الروحية، كما في الصحيفة السجادية".
العطاء والبذل: ومن أبرز صور عطائه أنه (عليه السلام) كان يشتري العبيد ويعتقهم بعد تعليمهم وتأديبهم، وهو أسلوب عملي لتحرير الإنسان من أغلال العبودية الجسدية والفكرية.
لقد كانت سيرة الإمام زين العابدين (عليه السلام) مدرسةً متكاملة في الصبر والعطاء، والإصلاح والتربية، والتصدي للانحراف بأساليب الحكمة والموعظة، في زمنٍ كانت فيه الكلمة الصادقة أعظم من السيف .
فقد روي: أن الإمام زين العابدين عليه السلام
كان يشتري العبيد والإماء، لكنه لا يُبقي أحدًا منهم عنده أكثر من سنة واحدة، إذ لم يكن ذلك لحاجته إلى خدمتهم، بل كان يشتريهم ليُكرمهم ويُربّيهم ويُعتقهم، تطبيقًا عمليًا لقيم الإسلام في تحرير الإنسان وتزكيته، كان « يعتقهم بحجج متعددة، وبالمناسبات المختلفة، إنه عليه السلام كان يعامل الموالي، لا كعبيد أو إماء، بل يعاملهم معاملة إنسانية مثالية، مما يغرز في نفوسهم الأخلاق الكريمة، ويحبب إليهم الإسلام، وأهل البيت الذين ينتمي إليهم الإمام عليه السلام»10
إضافة لما عُرف عنه (عليه السلام) صدقات السر، وهذه المزايا تحتاج كل واحدة منها وقفة كاملة لا يسعها المقام.
_____
1- الكافي ج8-ص15
2- الصحيفة السجادية ص343
3-الإرشاد ج2،ص144-145
4- المصدر السابق ص141
5- رسائل الجاحظ ص107- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج15-275
6-البداية والنهاية ج9-ص122
7- مناقب آل أبي طالب ج3- ص298
8-الاحتجاج ج2،ص51-52
9-معجم رجال الحديث ،ج17،ص191
10- جهاد الامام الجهاد 143
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat