كتابات في الميزان
كتابات في الميزان

 أصداء ما بعد الاحتفاء قراءة خاطفة في رواية منذ 1927 للقاص علاء المرقب

 عقدت ديوانية المرحوم ساجت نمر الحمودي أمسية للاحتفاء برواية الاديب علاء المرقب ، وكنت مقدما لهذه الأمسية بحضور شخصيات أدبية وفكرية ، فضلا عن نقاد وقصاصين ، ومثقفين من جمعية النسابين العراقيين فرع البصرة ، وجمعية الشعراء الشعبيين في الزبير.. وبما ان طقس الجلسة غلبت عليه الاجتماعية اكثر من الأدبية ، لاسيما والرواية تثقف الى مواجهة بعض الأعراف العشائرية الخاطئة ، لذا تركت ورقتي التي سأوجزها هنا ، لألتجئ الى تصدير واستقبال بعض الأمور التي عززها المتداخلون والمعقبون ، ما جعلني – واحتراما لطقس الجلسة – أؤجل ما اوجزته الى مناسبة أخرى .
الرسالة الام التي أرسلها الروائي (علاء المرقب) من خلال روايته منذ 1927 رسالة أخلاقية ، كونها لوحت الى معالجة العديد من العادات الخاطئة والتي كان وما زال العراقي يدفع ضريبتها ، وعمل جاهدا بأسلوبه (مبادرته) الاستنفارية ان يعمل على تبديدها ، ناهيك من انها اتخذت طابعا مختلفا ومغايرا ، بعدما جعلت التشوه الجنسي أساسا لها ، ما زاد من اشكاليتها ولبسها ! معززا ذلك في دقة البناء السردي الذي جعل النص يبعث سؤالا محوريا مفصليا ، ليضعنا جميعا ضمن خانة المساءلة .
ولقد اعتمد الروائي وبذكاء نابه ان يجعل التكثيف أساسا في نقل الأفكار التي كان يصدرها . ولا نغالي من انها كانت أفكارا متلاحقة ومزدحمة ، لكنها بقيت تطوف ضمن مساحة السرد ، وثيمة الحدث التي ارتبطت بخيوط ترتبط بالمرجعية الموضوعية . والعجيب هنا ان ما اعتمده الروائي في ابراز دور الشخصيات الثانوية في الرواية كان عملا ثان ، يحسب له . فلقد منح هذه الشخصيات مساحة من اللعب داخل مضمار الرواية ، فحقق بذلك مشروعا جديدا توج به ، اصبح هدفه ونشيده الأساس .
كما ان للمكان (الهور / العشار/ بغداد ) دوره في استقطاب حس القارئ ، الذي راح يستحضر تلك الأمكنة الثلاثة ، ولما لها الأثر بأحداث الرواية ، مستعرضا شريطا من الاحداث السياسية التي مر بها العراق ، ما يجعل احداثه حية ونابضة بعافية المعاصرة ، اذا ما سلمنا ان هذه الاحداث كانت سببا في معالجة النص السردي (العهد الملكي/ عبد الكريم قاسم / 1963 ، عبد السلام عارف / صدام حسين / الحصار الجائر / الحرب الثمانينية / حرب الكويت / الانتفاضة الشعبانية ...). وعليه جعل هذه الاحداث السياسية والاجتماعية تسهم وبشكل واضح في احداث القصة وتكون من صنائعها وارهاصاتها .
حاول الكاتب ان يلوح ببعض المرمزات ( منذ 1927 / لعنة شبيب / موت الام ..) متآمرا على نصه ، وصولا لإشراك القارئ ، واثارة فضوله باقتحام دلالة النص واستشراف نهايته ، واستطيع ان اضع هذا الامر ضمن الذكاء الميداني للكاتب . الا انه وبالمقابل نوه الى أمور جعلها تنعش استمرار النص (العادات العشائرية المرفوضة / الاذلال / التحطيم / التهميش / الإلغاء / العبودية / التخلف / الإحباط ..) . لذلك كسر هذا الجمود من خلال التباين الذي جعله موزعا في هندسة ومساحة نصه (الخير والشر/ القديم والجديد/ الريف المدينة / القتل السلام / الانثى الرجل / الكره الحب ..) . وعليه فقد افلح المرقب في استنطاق البعد المخفي لروايته ، والذي نقله من دائرة سرديته الى مساحة القارئ ، مشفوعا باستدعاءات وارهاصات فكرته ، لذلك كان يناور في جمعه بين الحدث الاجتماعي والفلسفي عميق الجذور ، غير متناس او متجاهل لضرورة حضور عنصر المتعة الذي برز غريبا وسط ذلك التشابك المتقافز الذي حفلت به الرواية .
اظن ان الروائي كان ناجحا في فهمه لنزعات القارئ ، ومدى اصابته بالملل في ظل الاحداث والصور والفديوات التي لا عد لها ولا حصر ، والتي تجود بها المنصات الاجتماعية وغيرها . لذلك نجح بتوظيفه الفاعل الفكري الذي ناف على كل الصور الأخرى ، بعدما اعتمد التركيب التصويري الاكشن ، مراهنا على حنكة وذكاء ووعي قاري نصه . ولعل هذا ما عمد اليه (تولستوي) الذي كان يستقي احداث قصصه من عماله وفلاحيه ، ومن يعمل بحقوله ومزارعه ، ليفيد منهم ، ويكونوا دم هذه الاحداث .
لذلك تلمس ان شخصيات المرقب قد امتلكت واقعيتها وحضورها ، وفرضت نفسها بيننا . وهنا يعلن القاص ان لا حاجة للرمز في ظل هذا الحضور وهذه المعاينة البانورامية ، اذا كانت احداث القصة واضحة بمعالمها ، وجلية بتطلعاتها ، ومباشرة بأحداثها ! وهنا ينتقل الروائي الى مرحلة المؤرخ الذي يرصد ويوثق ويتابع الاحداث ، ويقف على نتائجها ومسلماتها . فلم يكن دكتاتورا على شخوصه ، وطاغية على احداثه التي جعلها متعمدا وبأسلوب برغماتي ، فلم يجعل من شخوصه بيادقا على رقعة النص ، لتكون شاهدة فاصلة بين المؤلف والنص ، وهو الامر الذي جعل الروائي يقف على مساحة الذاتية والموضوعية . وهو هنا يؤكد قول رولان بارت الشهير : ( ان الكتابة هي اقرب ما تكون الى استراتيجية الكاتب في اتخاذ موقف عصره ) .

التعليقات

لا توجد تعليقات على هذا المقال بعد. كن أول من يعلق!