لعل من محاسن هذه العصا التي فاقت فعالياتها على التوكؤ عليها ، والهش بها على الغنم ، فضلا عن المآرب الأخرى . ان (ملة)* الكتاتيب عرفها وعرف اصنافها وانواعها جيدا ، وكيف لا ، وهو المقتدي بشعاره التلقيني الذي يعلقه في غرة الصف بخط واضح عريض يقول : ( العصا لمن ... ) وهو خير من خبر ولّوح وصدّر للوعد الوعيد ومراحل (الزوبة) و (الفلقة) وحتى (الكنارة) للمتمردين والكسالى من التلاميذ الذين راحوا يوغلون بنزعاتهم ويبالغون بتعليقاتهم وتمردهم، وهم يهربون من غضب هذا (الملة) الذي لا يجامل ولا يهادن في درسه القرآني . والغريب في الامر ان الود لهذا الرجل انسحب حتى على قطع الحلوى الذي كان الأطفال يبتاعونها بعنوان (عصاة المله) ، وعلى الرغم من انها حلوى رشيقة معكوفة مقلوبة ، لكنها تذكرهم بحالات الجلد والضرب التي ينتظرهم لا محالة ، فيضطرهم الامر الى ان يلوحون بهذه التسمية الى استاذهم وشيخهم ولو بطريقة الترميز .
في ارض (الملة)**يجمع (محمد) الذي يجعل من (صيدلية جبار) مثابة ودلالة لمهنته، ما جادت به أشجار اللوز الضخمة الباسقة في أربيل والسليمانية ، ليختار بعض اعواد بطيف لوني منسجم مع ذائقة الجنوب ، متمردا على بعض هذه العصي التقليدية التي شاعت هنا وهناك ، ليحقق رغبة لطالما تباينت بين (مرادي) الهور الضخمة ، وعصي كردستان الرشيقة الانيقة التي جاءت من أشجار الجوز واللوز والكستناء.. فلا عجب ان استخدمت الأولى في تجديف القوارب والابلام التي تجوب الاهوار، وتلمست الثانية حصيات الجبال وهي تهم صاعدة الى القمم في رواسي الجبال .. (عذرا) سأقلب المعادلة لأقول: فلا عجب اذا استعان احد (العصاة) – كما كان يطلق على الاكراد سابقا – بهذه العصا في تحركاته بين الجبال العالية الوعرة ليحتمي من ذلك القصف الغاضب ، او من الهاون(الاخرس) كما كان ينعت . او استخدمها الجندي الهارب ، او الفرار ، او الـ(عاصي) الذي يتخذ الهور مهربا له ، ومحلا لمقارعة السلطة كمجذاف لزورقه المموه الذي يستعين به بين الاحراش والادغال ، او سلاحا شخصيا له .
حينما اطيل النظر بالملمس الناعم لتلك العصي، استحضر فعل وهدف ونشيد العصى والعصي والعصوان اللتان لا تجتمعان بكلمة واحدة ، ويمر عليّ شريط من صور هذه العصي ، العميان المتقاعدين والعاجزين والمعاقين، وعصا تبختر القادة العسكريين، وعصى الانضباط العسكري التي تخيف الفرارية ، والعصا التي تسبق فعاليات ( اليس واليم) .
بالأمس ، وفي ديوانية قديمة ابصرت هذه العصا ، قلت لصاحبي لعلها عصا ملة (جري) ، فأومأ اليّ إيجابا قائلا بحسرة : نعم انها من خرجت اجيالا واجيالا، وتذكرت حينها الترنيمة القديمة التي تقول : ( سمعاً يا مولانا حمد..) .
إشارات :
*الملة : كلمة كانت تطلق على معلم القرآن الكريم
**الملة : اطلقها العراقيون على السيد مصطفى البرزاني
اعتزازي الكبير بالقاص المبدع محمد سهيل احمد الذي نشر موضوعا عن هذه العصي في صفحته الخاصة والصورة بعدسته الخاصة .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat