مفتريات بحق عليّ وأبيه عليهما السلام
محمد الرصافي المقداد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد الرصافي المقداد

قلب الحقائق وتغيير مقاصدها، لتتحوّل وسيلة فتك بعقول بسطاء المسلمين، سياسة خبيثة انتهجها حكام بنو أميّة، خلطوا فيها الأحاديث الصحيحة، بأخرى مكذوبة أجروها مجرى الاعتقاد بها دهرا من الزمن، حتى أصبحت عقيدة راسخة في الأجيال يتعبّدون بها، ظنّا منهم أنها أحاديث صحيحة، صادرة عن لسان الصادق الأمين، أفسدوا بها تديّن الناس، بإبعادهم عن هداتهم، ثقل كتاب الله من أهل بيت نبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله، فضلّوا في نهجم الذي سلكوه، ولم يتبين لهم سبيل الخروج منه، بعدما بعدت عليهم الشّقّة
بحث الأمويون عن معابة لعليّ عليه السلام، فلم يجدوا فيه ما يُعاب عليه سيرة وذاتا، فاستأجروا ذوي السفاهة من أتباعهم، ليباشروا سلسلة أكاذيب لفقوها عليه، وعلى كل من تعلّق به نسبا وموالاة، وقد بلغت بهم أحقادهم مبلغا من الانحطاط والإجرام، دفع بحكامهم ليفتتحوا سُنّتهم الأموية الجاهلية في التنكيل بهؤلاء، فلم يقصّروا في استعمال جميع وسائل الترهيب والقتل والتنكيل، التي عرفتها البشرية طوال تاريخها، وحتى التي فاتت شياطينهم فلم يدركوها، وأدركتها فظاظة قلوبهم فلم يتوانوا في تطبيقها، تأكيدا منهم على بغض سيلقون به يوما من دعاهم إلى حبّه وموالاته.
عليّ ولي كل مؤمن ومؤمنة(1)، منجلة ما صدح به الوحي بلسان النبي صلى الله عليه وآله، لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يُعامل بغير تلك الصفة فيقرن إلى نظائر من الصحابة، لم يتميّزوا عليه في شيء من تربية وإيمان وجهاد وقُرْبٍ، فمن كفله وربّاه رسول الله وهو في نعومة أظافره، لا يمكن أن يصدر عنه ما يخالف تلك التربية الحكيمة، وما دعوته إليه أول ما نزل عليه الوحي لكي يؤمن، وهو طفل في العشرة من عمره، إلّا دليل يُساق معرّفا قيمته العقلية مدركا بها بجلاء محاسن الأعمال من مساوئها، وهو الذي درج بين يدي أخيه رسول الله صلى الله عليه وآله، سالكا معه طريقه المستقيم، لم ينحرف عنه طوال حياته الشريفة، وكانت سيرته مثالا احتذى بها، من أدرك ما اختزله هذا العظيم، من قيم ومعارف انقادت إليه، وفي المقابل استعصت على غيره.
والعجب فيمن سمع ووعى مقالة النبي صلى الله عليه وآله، خاصّا بها عليا وحده، ولم يخصّ بها غيره، وهي: (لا يحبك الا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق)(2)، فلم يعيها ولا أعطاها اعتبارا، وأمضى حياته على تجاهله واستنقاصه، وتأخيره عن مرتبته التي رتّبه الله فيها، والإصطفاف مع أعدائه ومبغضيه، وهل يمكن أن يفلح شخص استنقص عليّا أو أبغضه؟ بل هل يُفلح من أبغض محبّا أو مواليا لعليّ؟ والمشاعر والعواطف هنا متّصلة ببعضها، سلسلة مرتبِطة لا تنفك حلقاتها، متأصّلة في الأنفس، فويل لمن أبغض عليّا، وعى إحساسه بذلك البغض أم لم يعيه، وويل لمن ناصبه العداوة، وهو متيقّن أنّه مُقَدّم على الجميع، باستثناء رسول الله صلى الله عليه وآله، وهنيئا لمن عرف مكانته، فأحبّه وأجرى ذلك الحبّ على تفاصيل حياته، مجرى اليقين بحقوق عليّ عليه، وسعِدَ في الدنيا والآخرة من سار على نهجه القويم، نهج الفطرة الإنسانية، سير الموقن بأنّه اختار السبيل الأنجح، الواجب على كل مؤمن اعتماده في حياته.
سفهاء بنو أميّة وما أكثرهم، لم يستسيغوا أنّ عليا حبّه إيمان وبغضه نفاق، فأرسلوا دجاجلتهم ليقعوا في شنآنه، وتشويه شخصيته النقيّة من الدنس، والمُطهّرة تماما من رجس الشيطان، فيختلقوا رواية شبيهة أسندوها إلى أنس بن مالك، نسبوها إلى النبي صلى الله عليه وآله جاء فيها: آية الإيمان حبّ الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار) (2) ويبدو أنّ (البخاري) لم يستسغ بدوره مقالة النبي صلى الله عليه وآله الصحيحة عن عليّ، فلم ينقلها كما نقلها (مسلم النيسابوري) - مع أنّ مسلم نقل أيضا الرواية الأخرى المكذوبة- وجحْدُه ذلك دليل على إحنة في قلبه، دفعته إلى حجب أغلب ما قاله النبي بخصوص عليّ، أنف غيره سلوك منهجه في عدم نقله، وقد اجتهد في جامع أحاديثه على أن يكون مُقِلّا لصحاح ما ردّده الوحي بشأن عليّ، ودعوى حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق، لا ينطبق على جميع الأنصار، فهناك بينهم من ناصب عليا عليه السلام بغضا شديدا، والبغض الشديد لا ينمحي، فهو مطبوع في قلب المبغض، لا يرتفع عنه بسهولة ويصعب عليه إخراجه منه، كما هي شأن بريدة الأسلمي الأنصاري، وغيره ممن أُخْفِي اسمه عنا، يكفي هنا أن أذكّر برواية نسبها عبد الله بن بريدة إلى أبيه بريدة قال: أبغضت عليا بغضا لم أبغضه أحدا قط، قال: وأحببت رجلا من قريش لم أحبه إلا على بغضه عليا (3) ( والرجل الذي صاحبه وأحبّه بريدة هو خالد بن الوليد) ومن بقي على صحبة مبغض لعليّ، فمن المؤكد أنّ قلبه لم يتغيّر، رغم تحذير النبي صلى الله عليه وآله له من مغبّة ذلك البغض.
ومن تربى على يدي رسول الله صلى الله عليه وآله، ودرج صغيرا بين يديه، وعاشر شابا يافعا تحت سقف بيته ولازمه في تأمّلاته وخلواته بنفسه، يستحيل أن يصدر منه زلل، أو ينحرف مزاجه ليصبح على ما جرت عليه عادات قريش الجاهلية، فكيف بهؤلاء المبغضين فاقدي الحياء، وقد ألصقوا به فرية شرب الخمر والسكر، والصلاة سكرانا والهذيان فيها، ومن عظيم دهائهم أنّهم أسندوا الرواية له: ( عن علي بن ابي طالب عليه السلام: أن رجلا من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف، فسقاهما قبل أن تحرم الخمر، فأمّهم علي في المغرب، فقرأ قل يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت الآية: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون)(4)
ومع جملة ما أُلصِق بشخص عليّ عليه السلام، وإدراك جوقة المفترين أنّهم لن يتمكنوا من زعزعة شخصيته في قلوب المسلمين، ذهبوا إلى تشويه أبيه مؤمن قريش أبو طالب، والادّعاء عليه بأنّه مات كافرا، وأيّ جناية يمكن أن يحملها مفتر أكبر من هذه ليلقى بها ربّه يوم القيامة، لم يصُدّهم عن دعواهم الباطلة، أن أبا طالب مع كل ما قام به مع زوجته (فاطمة بنت أسد)، من كفالة ورعاية وحماية، ولم يلتفتوا إلى أن هذه المرأة المتفانية في خدمة النبي صلى الله عليه وآله، والسابقة أيضا إلى الإيمان به، وقد عُدّت حادي عشر من أهل التصديق ببعثته، والإسلام يحرّم بقاء امرأة مسلمة تحت كافر، فكيف بزوجة أبي طالب، ومع نفاد رواية إلينا تؤكّد أنه مات مؤمنا، لم يرتدع الحزب الأموي عن غيّه، فتمادى أتباعه في اعتقادهم السيء بكفره.
ولَمَّا مات أبو طالب جاء عليّ عليه السلام إِلى النبي صلى الله عليه وآله فأخبره بموته، فتوجَّعَ عظيماً وحزن شديداً، ثمَّ قال: امضِ فتولَّ غُسلَهُ، فإِذا رفَعتهُ علَى سريره، فأَعلمني ففعل (5) فاعترضه وهو محمولٌ، فقال لهُ: وصلتكَ رحمٌ يا عمِّ، وجزِيتَ خيراً، فلقَدْ رَبَّيْتَ، وكفلْتَ صغيراً، ونصرْتَ وآزرْتَ كبِيراً، ثُمَّ تَبِعَهُ إِلَى حُفرتهِ، فوقف عليه، فقال: أَمَ واللَّهِ لأَستغفرنَّ لَكَ ولأَشْفَعَنَّ فيكَ شفاعةً يعجبُ لها الثَّقَلان. (6)
لقد أخفى أبو طالب إيمانه بابن أخيه حتى يتمكن من القيام بمهمّة حمايته من أذى مشركي قريش، والوقوف في وجوه زعمائهم، وهو زعيم بني هاشم، وكان حريصا على أن يلتحق ابنه جعفر بأخيه علي في الايمان بالنبي وشدّ إزره، وعجبي كيف يُسلم أبو سفيان وهند آكلة كبد حمزة أسد الله وأسد رسوله ويحسن إسلامهم وهما من بيت ناصب العداء وحارب النبي ودينه، وفي المقابل يُنْسَبُ أبو طالب مؤمن قريش إلى الكفر.
أجمع علماء الشيعة على ايمان أبي طالب عليه السلام، ووافقهم على ذلك جماعة من علماء السنة، وهناك أدلة كثيرة تثبت ذلك ذكرتُ بعضها، يكفي هنا أن نُشير إلى قول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: (وَ اللَّهِ مَا عَبَدَ أَبِي وَ لَا جَدِّي عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَ لَا هَاشِمٌ وَ لَا عَبْدُ مَنَافٍ صَنَماً قَطُّ.) قِيلَ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ؟ قَالَ: كَانُوا يُصَلُّونَ إِلَى الْبَيْتِ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ مُتَمَسِّكِينَ بِهِ (7).
تلميحات وإشارات دوّنتها، أحقاقا لحقّ هاذين الرجلين العظيمين، بمناسبة ذكرى وفاة أبي طالب، كافل اليتيم الذي ألمح بشأنه رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله: كافل اليتيم أنا وهو كهاتين في الجنة. ( قرن السبابة والوسطى) (8)، فليعرف المسلمون مكانة الإبن وأبيه وما قدّماه في سبيل الله ورسوله ودينه، إحقاقا لحقوقهما علينا، وتأكيدا لأواصر الإيمان التي تربطنا بهم، وقد فاز من اعتقد فيهما حُسنا، والعاقبة لمن سلك طريق المتّقين، وابتعد عن غواية شياطين الانس، والحمد لله رب العالمين.
المصادر
1 – مسلم كتاب الايمان ج1ص60 ح78 /
2 – جامع أحاديث البخاري كتاب الإيمان باب علامة الإيمان حب الأنصار ج1ص12ح17/
3 – مسند أحمد بن حنبل مسند الأنصار حديث بريدة الاسلمي ج38ص65ح22967
4 – سنن ابي داود كتاب الاشربة باب في تحريم الخمر ج4ص54ح3671
5 – بحار الأنوار المجلسي ج35ص163
6 – شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج7 ص76
7– الخرائج والحوائج القطب الراوندي ج3ص1075
8 – مسلم كتاب الزهد والرقائق ج8ص221ح2983
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat