ظلت فكرة الرجوع إلى الأصل مطلبا أثيرا لمبتدأ الحداثة قبل أن تستهوي التنوير أقاصيص قطائع لا تستثني مجالا..هنا بات الحديث
لا زال الحديث حول حديث الآحاد والمتواتر يسيل مداد أهل الاختصاص..وبات واضحا كما في علم الدراية
اعتراضات برتراند راسل على فكرة الألوهية في "لماذا لست مسيحيا" كانت تؤرقني..حتى بدا لي يوما أن هذا العقل
لكل شاعر قضية .. ولكل شعر واد يهيم فيه الشاعر .. وأجمله ما كان يهيم في واد الحسين..واد الدموع والمآسي والمواجع ..
دخلت مأساة الحسين إلى ديوان العرب من أوسع أبوابه..فكانت المراثي تقتحم كل المداشر و البلدات ..
من الصعوبة بمكان استقصاء كل ما كتب في رثاء الحسين..ما يعني أنّ المصاب هنا أكبر من الشعر وأعمق من كل بحوره..
الشعر أيضا يجري عليه ما جرى على كل صناعة فكرية أو كلامية..شعراء يرسلون كلماتهم إمتاعا ومؤانسة وشعراء يحملون...
بعد مصرع الحسين تواصل الرثاء بلا انقطاع..من قرن إلى قرن..ومن جيل إلى جيل..الدموع تنساب في تواصل حزين..
يستمر جدول الرثاء جريانا..والحسين أيقونة حزن لا تنقضي روايته..والمحاجر تتجدّد خصوبة عند كلّ استدعاء شعري للمصيبة.
وإنّ عرق الشعر دسّاس...هؤلاء النسوة ليسوا فقط أهلا للحسين نعيناه بدافع العواطف والقربى..بل في عرقهم نبض من أشعر الشعراء..
في كربلاء أعاد شعر الرثاء اكتشاف رهافته وكأنه يولد لأوّل مرّة في الشعر العربي..خلّد الشعر العربي تراجيديا
للشعر العربي حكاية أخرى ينذر لها نظير في الأمم الأخرى..يكاد يكون ـ وهو أرقى فنون القول ـ مذهب العرب في رؤية الأشياء والتعبير عنها..
لو كان الحسين ـ وما كان ينبغي أن يكون ـ في العصر الجاهلي لكان رثاؤه ظاهرا في المعلّقات..ولتخطّفت ذكراه الشعراء ورأوا في مقتله ...
بين شعر وشعر مسافة قد تعدّ بمقاييس الفلك..فثمة شعراء خلطوا بين ماجن وجاد..آخرون تحدّثوا عن الحماسة وهم في الوغى كالرعديد.
هي أكبر ملحمة شعرية على الإطلاق..فمنذ مقتل الحسين هناك أمران لا يتوقّفان: دموع النواح ورثاء
أسال الحسين دموع العاشقين ومداد العلماء وقريحة الشعراء..وكان الشاعر يكبر بقدر تعبيره عن هذا العشق.. ترقّ المشاعر وتفور وينتفض
لم يكن الأمر سهلا مستطابا..فالموقف من الحسين يومئذ هو قضية نكون أو لا نكون..فلقد تلبّك القوم وحصلت فتنة ضارية وهناك من محبّيه...
والشعر هو أروع فنون القول وأسمى صنائع الأدب..فإن كان متكلّفا خارج آلة ضبط المحتوى فلا يشفع له مظاهر التموسق الخارجي وانتظام القوافي...