ما يجب أخذه بعين الاعتبار بخصوص تلوّث قابس
محمد الرصافي المقداد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد الرصافي المقداد

في خضمّ ما جرى ولا يزال متواصلا في مدينة (قابس) من مظاهرات لم تحصل من قبل في مشروعية مطالبها، وبهذه المشاركة الشعبية الواسعة، رغم أن المطلب الشعبي لأهالي المدينة، تمثل في إزالة المركب الكيميائي بجهة (غنوش)، وهو مطلب ما كان مطروحا من قبل، ولا يجرّأ على التصريح به تلويحا أو تلميحا أحد، خشية التعرض لنقمة النظامين السابقين وبورقيبة وبن علي، تاريخيا - ولا يجب اغفاله - وقع تنصيب الوحدة الأولى الصناعات الكيميائية المغاربية ICMسنة 1972، ثم تطورت بعد ذلك الى ثلاث وحدات، لتلتحق بها الشركة العربية للأسمدة الفوسفاتية والأزوتية SAEPA سنة 1979 لتصبح وحدتين بعد ذلك، ويتوسع نشاط المجمع الإنتاجي ليشمل أيضا الأمونيتر سنة 1983، ومع ما خلفته هذه الصناعات الكيميائية من روائح غازات مقلقة، وانبعاثات مضرّة لصحّة أهالي غنوش وشط السلام على وجه خاص، وقد أثبتت البحوث البيئية والطبية التي أجريت على المنطقة المتضررة، آثارها الواضحة على الحياة عموما، وبدأت مخلفات هذه المصانع تظهر على السكان تدريجيا هناك.
نتائج لم يكن بالإمكان نشرها والحديث عنها واثارتها على العموم، ونشر نتائجها بما يحرج النظامين السابقين، فلم يجرؤ أحد على المطالبة بإغلاق وتفكيك الوحدات الكيمائية، ولا اجتمع أهالي قابس عليه خلال السنوات الخوالي، حتى زمن العشرية السوداء مضى الوضع عاديا ولم يتحشد له هؤلاء الذين وقفوا هذه المرة من أجل مطلب واحد وهو تفكيك الوحدات جملة وتفصيلا تحت شعار، نريد ان نعيش في بيئة صحية نقية المحيط،، ومع تخلل المظاهرات عناصر منفلتة، انصبّ همها على الاحراق والتكسير والعبث بالممتلكات العامة، ورشق قوات الأمن بالحجارة والمولوتوف، استغلالا لمجال الحرية الذي كفله الدستور الجديد، وتجاوزا للحرية المسؤولة إلى الفوضى الغير مسموح بها، ما استدعى تدخلا أمنيا لمعالجة الأمور والسيطرة على الأوضاع.
جالة تجييش أهالي مدينة (قابس) والدفع بهم إلى مواجهة الدولة بدت ظاهرة للعيان، ومن الغباء الاعتقاد بأن حالة الاحتقان المتسارعة، حوّلت المواطنين هناك إلى عصاة ومتمردين، وقع دفعهم نحو مطلب واحد، يكاد يكون مستحيلا في الظرف الراهن، ويحتاج في أحسن الحالات إلى تعديله، بالنزول إلى مطلب اقلّ ضررا لاقتصاد البلاد المتردّي، الذي هو بحاجة إلى دعم مادي كبير، وكثافة انتاج من شأنها أن تخرجه من أزمته الاقتصادية المتواصلة، فما خلفته حقبة العشرية السوداء، وما قبلها من جمهوريتي العمالة والارتهان للغرب ( بورقيبة وبن علي)، من تداين متواصل أسيء انفاق قروضه، ولم يستفد منها الشعب بشيء تقريبا.
ما حدث في مدينة (قابس) يدعونا إلى تعهد جاد للملفات الكبرى، التي هي بحاجة إلى مراجعة دقيقة وناجعة، وليس أنصاف حلول أو علاجات وقتية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك خطرا متربصا بالبلاد، من أجل قطع الطريق عليها في خياراتها السياسية، بصدد ممارسة ضغوطه علينا بكل وسائله التي سخّرها، من أجل إعادة بلادنا إلى المربّع الأول من الارتهان والتبعية للغرب المستعمر، مستفيدا من عملاء في الداخل باعوا ضمائرهم وداسوا على وطنيّتهم، بحيث لم يعد يهمّهم من تحرر تونس وخلاصها من مسار عقيم، لم يقدّم للشعب ما كان يرجوه من تقدّم وتطوّر، يراه واقعا في الشعوب الأخرى التواقة والعاملة من أجل غد افضل، ويرمقه بعين الحسرة وهو بعيد عن متناوله.
ما يجب اخذه بعين الاعتبار بمسؤولية كل وطنيّ، تفاديا للوقوع فيما خطط له أعداء تونس من أجل اسقاطها، الإقرار بأن معضلة التلوث في (قابس) قديمة كما اشرت في أول المقال، وليست من صنع قيس سعيد، فهو بريء منها وبعيد عن التورط فيها، ما يمكن قوله أن أعداء تونس استغلوا تقاعس المشرفين على المجمع الكيميائي في تعهد وحداته، بما يسمح بالحدّ من تلوثه وانبعاثاته، واخلال سلطة الاشراف بالسهر على ما يحتاجه هذا المركب، من صيانة سنوية ضرورية، من شأنها أن تقلل من آثاره السيّئة على قابس، وعليه يجب الإسراع في هيكلة وصيانة جميع الوحدات، وتكليف شركات صينية ذات خبرة في مجال الكيماويات، قادرة على وقف تسرب الغازات المنبعثة وتلويث البيئة، وما من شأنه أن يشكل خطرا على حياة الأهالي بقابس.
المطالبة بتفكيك الوحدات ونقلها تعجيز للدولة، وعلى من طالبوا بذلك أن يقدّموا حلولهم إلى اين يمكن نقلها؟ وما سيكلفه ذلك من خسائر لا قبل للإقتصاد بها، وهي بحدّ ذاتها ليست حلّا جادّا، نعم لمحاسبة المقصرين، خصوصا أولئك الذين كان بإمكانهم فعل شيء يقلل من خطر تلك الانبعاثات، ندرك جيّدا أنّ (قابس) وغيرها من المناطق التي انتصبت فيها وحدات كيميائية مشابهة، كانت ضحية مسؤولين وحكام فاسدين، كانوا يرون مصالحهم الخاصة دون غيرها من المصالح العامة، ولم يقيموا وزنا لحقوق المواطن في العيش تحت مناخ بيئي سليم، خال من التلوّث الذي تعاني منه واقعا دولٌ عديدة، وتسعى الى الحدّ منه بجدّ، دون الاضرار باقتصادياتها مع مراعاة الصحة العامة، واعطائها أولويّة قصوى في مشاريع تنمية بلدانها.
ليست (قابس) وحدها في هذا الملف مظلومة بل هناك (صفاقس) و(المظيلة) وقد يكون هناك مناطق أخرى متضررة، وبحاجة إلى تدخل سلطة الاشراف تدخلا ناجعا، نعرف جيّدا أن ادارتنا مازالت بعيدة عن تحمل مسؤولياتها الوطنية، ويوجد من لا أهلية له في التسيير مازال يمثل عقبة في طريق الإصلاح، وعلى الوطنيين ادراك ذلك جيّدا، والعمل على تحييد هؤلاء السلبيين والفاسدين من مجال السلطة والتسيير واعفاؤهم من تحمّل المسؤوليات الوطنية، تنقية الإدارة أمر ضروري، من أجل مسيرة شعب يريد لأفراده الخير والنّماء، في ظل دولة تراعي حقوق مواطنيها، ولا تخلّ بواجباتها نحوهم.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat