العدوان الصدامي على ايران وأثره على القضية الفلسطينية
جاسم محمدعلي المعموري
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
جاسم محمدعلي المعموري

في هذه الايام نعيش الذكرى الخامسة والاربعين لبداية الحرب الصدامية ضد ايران, في ذلك الوقت حينما تعارضت المصالح السياسية فيما بينها, مصالح البقاء في السلطة, وكفت الذاكرة الجمعية للأمة عن العمل, وفي لحظة من لحظات الخيانة الكبرى للتاريخ دخل الطغاة المسرح السياسي من أبواب مظلمة, حيث تحول العراق- بلدنا العزيز- الذي كان يوما ما يخطو بثقة نحو الحضارة, إلى مسرح مأساوي للقتل والاعدام والدمار.. ولم يكن في مطلع القرن العشرين مجرد كيان سياسي ضمن خرائط مصطنعة من قبل الاسنعمار, بل كان مشروعا حيا لحضارة ناهضة, تجهد في ان تتجاوز صدمة الاحتلال البريطاني, وتُشيد لنفسها هوية حديثة تستمد جذورها من عمقها السومري والبابلي والاسلامي.. كان الملوك حينها- رغم كل ما يُقال عنهم- يدركون أن العراق إنما يُبنى بالعلم والحداثة, وبالجيش الذي يتدرب ليحمي الشعب وليس ليغدر به, وبالشعب الذي يتعلم ليصنع الحياة والحرية لا ليُستعبد ويُجر الى نار حروب عبثية, وكانوا يرون في فلسطين مرآة لضميرهم, وفي العدو الصهيوني خطرا لا بد من التصدي له بكل السبل.. تلك كانت لحظة نادرة من اتساق الاخلاق مع السياسة ومن انسجام الخطاب مع الفعل, إلى أن جاء زمن الانقلابات, زمن الفوضى المقنّعة بشعارات التحرير والتغيير.
لم تكن الانقلابات التي اجتاحت العالم العربي منتصف القرن العشرين سوى أدوات قذرة لمخططات خفية, صيغت بنعومة خلف الأبواب المغلقة في عواصم القرار العالمي, حيث لا يُؤخذ رأي الشعوب بعين الاعتبار، بل يضنعون لها مصائرها كما يصنعون مسرحيات دموية تُعرص على خشبات مسارح أوطانها.. كانت الانقلابات متشابهة بشكل يثير الريبة.. ضباط صغار السن وبخلفيات دراسية موحّدة تخرجوا من رحم الأكاديميات البريطانية التي أعدّتهم على مهل ليكونوا خناجر مغروسة في خاصرة بلدانهم, والغريب أن الملوك الذين أطاح بهم هؤلاء كانوا أولئك الذين وفقوا بوجه فكرة وجود كيان محتل على أرض فلسطين, فكانت عقوبتهم أن يتم خلعهم, وأن يتم تيسلم وطنهم بيد من لا يفقه معنى الوطن, فصارت السيادة وهماً وصار الشرف شعارا بلا معنى, وبدأت مأساة طويلة اختلط فيها الدم بالمؤامرة والحلم بالخذلان, وكان العراق – للأسف الشديد- على رأس القائمة, بينما بقي ملوك اخرون يحكمون حتى يومنا هذا لأنهم لم يعارضوا احتلال فلسطين وتشريد شعبها, وزرع قاعدة عسكرية هي ما يسمى ( اسرائيل) وسط الامة تمنعها من الوحدة او التعاون فيما بين شعوبها وحكوماتها, بل دعموا هذه المؤامرة الخبيثة, وكل ذلك حصل بعد سنوات قليلة جدامن إعلان تأسيس (إسرائيل) سنة 1948.
في خضم هذا الظلام ظهر رجل اسمه صدام, لا يحمل من المجد شيئًا سوى اسمه القبيح وعارات عائلته الاقبح, ولا من التاريخ نصيبا إلا الزيف, طافح بامراض نفسية خطيرة بسبب ماضيه المخزي, والذي يستنكف المرء ذكره, تافه في أصله, فهو ابن شوارع كما يعرف ذلك العراقيون جميعا, مشبوه في فعله.. في قوله.. مشكوك في نسبه.. تسلّل إلى السلطة كما يتسلل الفيروس إلى الجسد الصحيح السليم المعافى ليصيبه بالعلل والخوف والسهر, لم يكن العراق حينها بحاجة إلى بطل سينمائي بملامح قاسية وخطاب زائف يصنعه الاعلام الغربي , بل كان بحاجة إلى من يُكمل مسيرته الحضارية, ويقيه عواصف الفتن التي كانت تلوح في الأفق, لكن صدام لم يأتِ ليبني وطنا، بل جاء ليهدم اوطانا, لم يأتِ ليحمي الشعب من المؤامرات , بل جاء ليذبح وينفذ المؤامرات.. وما هي إلا سنوات قليلة حتى صار الخوف هو اللغة الرسمية للدولة, وصارت الدماء مدادًا لخطابات الولاء, وتحولت البلاد إلى مزرعة طغيان لا يُسمع فيها سوى صوته، فكانت خطاباته الجوفاء تملأ الشاشات ليل نهار, ولا يُرى فيها إلا ظله, وكانت صورهُ منتشرة كما ينتشر الجراد في كل مكان, ولم تخلو منها حتى المراحيض العامة, ولا يُعبد فيها إلا وهم العظمة الذي كان يتغذى عليه كل يوم.
وحين بزغ فجر الثورة الإسلامية في إيران عام 1979, كانت رياح التغيير قد هبت بقوة من الضفة الأخرى من شط العرب, لا لكي تصنع انقلابا جديدا, بل لتعيد للسياسة روحها وللدين دوره الأخلاقي في الحياة العامة, كانت تلك الثورة حدثا هائلا في الوعي الاسلامي, هز عروش الطغاة وأقلق قلوب المحتلين، فاجتمعت الارادات المعادية لها من كل حدب وصوب, وفي مقدمتها (اسرائيل) التي رأت في ولادة نظام اسلامي مستقل لا يبعد عن حدودها كثيرا, تهديدا وجوديا مباشرا, لكن كما هي العادة, لا تتدخل (إسرائيل) مباشرة, بل تكتفي بإرسال اشاراتها إلى حلفائها في الغرب, وهؤلاء بدورهم يعرفون ادواتهم في الشرق, يعرفون من الذي يمكنه اشعال فتيل الحرب, ومن الذي يمكنه ان يلبس الغدر كثوب للبطولة. ولم يكن صدام بحاجة إلى كثير من التحريض, كان مستعدا بفطرته العدوانية ونزعته الطائفية, لأن يحرق المنطقة كلها من أجل أن يُثبت أنه قائد, ولو على جماجم شعبه.
رفض الرئيس العراقي حينها, احمد حسن البكر الدخول في مغامرة عبثية ضد إيران، وقد أدرك ببصيرته, أو بما تبقى له من ضمير, ان اشعال الحرب مع جار كبير مثل إيران الثورة سيكون كارثة تتجاوز حدود المعركة, لكن صدام الذي كان حينها نائبه لم يتحمل هذا التردد, فدبّر انقلابا داخل الانقلاب وخلع الرجل العجوز, ثم دس له السم ليُصفيه في صمت كما صفى غيره قبل ذلك وبعد ذلك, من الكثير من المعارضين بل حتى من قيادات حزبه, ومنذ تلك اللحظة اطلق صدام العنان لأوهامه, وتلبّسته نبوءة الخراب واصابه جنون العظمة, فبدأ يعد العدة لحرب طاحنة ضد ايران, مستغلا اللحظة التي كان فيها التظام الايراني حديث العهد, لا يزال يرسخ أقدامه، ويعيد ترتيب مؤسساته، ويواجه تآمرا داخليا وخارجيا, والثورة مازات فتية ,اختار صدام تلك اللحظة ليغرس سيفه في خاصرة إيران, ظانًا أنه سيكون صاحب نصر سريع, يمكّنه من أن يُتوَّج في خيال الأمة بطلا عربيا جديدا, فارس الامة العربية وحامي حماها, لكنه لم يكن يعلم, أو لعله علم وتعمّد, أن تلك الحرب ستكون بداية السقوط الكبير, ليختبيء في حفرة حقيرة, ويقوم احد جنود الاحتلال بازالة القمل من شعر راسه في مشهد تليفزيوني اعلامي لا ينسى, وقد استجاب الله دعائنا حينما كنا ندعوعليه ونقول" اللهم أخزِهِ في الدنيا والاخرة واجعله اضحوكة للعالمين"
لقد كان عدوان صدام على إيران أكثر من مجرد قرار عسكري اجرامي أو مغامرة سياسية غير محسوبة, بل كان إعلانا عن دخول العقل العربي الرسمي مرحلة الانتحار التاريخي, فحين يشنّ حاكم عربي حربا ضروسا على جار مسلم, يخرج للتو من ثورة حررته من قرون من التبعية, فإنه لا يفعل ذلك صدفة, ولا بإرادة منفردة بريئة, بل بفعل إملاءات أكبر، تحركه كما يتحرك الحمار الغبي في ناعور دوّار ليشكل مشهدا تراجيديا فريدا, كان صدام - في جوهره - أداة مثالية لمشروع خارجيّ أراد أن يجهض تلك اليقظة الإسلامية, ليس لأنها تشكّل خطرا عسكريا مباشرا على الغرب أو على (إسرائيل), بل لأنها تحمل في طياتها مشعل الاستقلال الحقيقي, ذلك النهوض الذي تخشاه الإمبراطوريات أكثر من السلاح النووي, فمن يعتقد ان الحرب على ايران المستمرة منذ بزوغ فجر الثورة هي من اجل برنامجها النووي فهو مخطيء, فالعدو الحقيقي في منطق الهيمنة العالمية ليس من يحمل السلاح, بل من يحمل الإرادة الحرة, ومن يربط الأرض بالسماء, والسياسة بالأخلاق, والدولة بالعقيدة, لذلك نقول ان صدام لم يكن يفكر في خرائط التاريخ, ولا يقرأ الجغرافيا, ولا يُؤمن بفكرة الأمة, رغم كل ما زعمه في خطبه الطويلة المملة التي كانت في حقيقتها مجرد أصوات مبحوحة في صحراء خالية, لقد زيّن له الوهم اعماله (وَإِذۡ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ ٱلۡيَوۡمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَار لَّكُمۡۖ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلۡفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيٓء مِّنكُمۡ إِنِّيٓ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوۡنَ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَۚ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ) الانفال 48. وظن أن احتلال بضع قرى حدودية سيكون كافيا لإخضاع إيران, أو لكسر ارادتها, أو لانتزاع شرعية وجوده كقائد عربي يريد ان يكون شرطي الخليج وياخذ مكان الشاه المخلوع, لكنه كان كمن أيقظ نارا نائمة تحت رماد قرون من الظلم والخذلان, فكان الرد الإيراني عنيفًا, ليس فقط بالسلاح, بل بالروح, بالجموع التي تزاحمت على جبهات القتال من كل الأعمار, من طلبة الجامعات إلى الفلاحين, ومن النساء اللواتي خُضن الحرب في خطوط الإمداد, إلى الأطفال الذين حملوا قلوبهم دروعًا, وبدأت الملحمة.
ثمانية أعوام كاملة, ثمان سنوات كُتبت فيها مئات آلاف القصص, أغلبها لم يُروَ بعد, لأنها لا تتسع في كتب التاريخ, ولا تُفهم في اروقة القصوروظلمات السياسة, كان الجندي العراقي يُؤخذ من فراشه ليُرمى في جبهة لا يفهم سببها وهو يتمنى لو ان هذه الجبهة كانت على حدود فلسطين وان الجيشين يقاتلان معا لتحريرها، وكانت أمه تبكي عليه كل ليلة وهي لا تدري لماذا يؤخذ منها ولدها أو من أجل من ذهب ليقاتل, وكان الاعدام يقف كشيطان اسود مرعب عند كل باب من ابواب بيوت العراقيين, اما القتل الان في الشارع وامام الزوجات والاطفال والامهات, او الذهاب الى جبهات القتال, بينما كان الجندي الإيراني، الذي لم يمضِ على ثورته عامان، يندفع بروح العقيدة ليس إلى الموت، بل إلى الخلود، مدفوعًا بإحساس نادر بأن ما يفعله هو دفاع عن الشرف والوجود.. لم تكن تلك الحرب - كما أُريد لها- معركة بين نظامين، بل بين مشروعين, بين من اختار أن يذوب في مشيئة قوى الاستكبار, وبين من قرر أن يجرّب أصعب طريق, طريق الاستقلال الحقيقي, طريق ذات الشوكة, ولهذا كانت المجازر الكبرى لا تقع فقط في ميادين القتال, بل في عقول الشعوب, حين يطلبون من الأم أن تصفق لقاتل ابنها، او من الزوجة ثمن الرصاصات التي يقتلون بها زوجها الهارب من الجيش ,ومن المثقف أن يبرر سفك الدماء, ومن التاريخ أن يُكتب بمداد من الكذب.
وكان أكثر ما في تلك الحرب فداحةً أنها لم تكن ضد عدو, بل ضد أخ.. ضد جارٍ يجمعنا به الدين والدم والتاريخ والمصير.. حربٌ صنعتها يد صدام, ولكن موّلتها أنظمة الخليج, تلك التي باركت وجود إسرائيل في الخفاء, ورفضت ثورة الشعوب في العلن, فتدفّقت أموال النفط كالسيل, ليس لبناء المدارس أو المشافي, بل لشراء السلاح الذي يقتل به العربيّ شقيقه والمسلم أخاه - وللأسف- بتمويل عربيّ وتخطيط غربيّ وتنفيذ بعثيّ.. هنا- في هذا المشهد المُعتم, تبدأ القضية الفلسطينية في الانهيار ليس تحت ضربات العدو, بل تحت خناجر الأشقاء.
القضية الفلسطينية, تلك التي وُلدت من رحم الظلم العالمي والخذلان العربي, لم تكن بحاجة إلى مزيد من الطعنات, فقد كانت جراحها مفتوحة منذ النكبة, تتقيح بخيانة الحكام وتآمر العروش وسكوت الشعوب. ولكن صدام, بما مثّله من نموذج ملوّث للقيادة, قدّم واحدة من أخطر الطعنات, لأنها لم تكن مباشرة بل كانت خبيثة, ولم تكن صريحة, بل كانت تمويهية. لقد أشغل الأمة بحرب عبثية طويلة, استنزفت الأرواح, وانهكت الاقتصادات, وتحوّلت جيوش العرب إلى كتائب موجهة ضد أنفسهم لا ضد عدوهم, وبينما كانت إسرائيل تتوسع في الضفة الغربية وتبتلع القدس, كانت جيوش العراق وإيران تبتلع بعضها بعضاً في معارك لم تنتج سوى المقابر الجماعية ومشاعر الحقد. في هذه اللحظة بالذات ماتت فلسطين في الوعي العربي, أو بالأحرى تمّ اغتيالها, ليس على يد الصهاينة, بل على يد من زعموا أنهم "حماة البوابة الشرقية للأمة" على يد "فارس العرب" الذي وجد يرتجف في حفرة جرذان.
هنا لا بد من التأمل في معنى العدو ومعنى التحالف ومعنى الخيانة نفسها.. فالعدو في المفهوم البدهي الاولي هو من يسلبك أرضك, ويحرمك من مقدساتك, ويُهجِّر شعبك, لكن في الحالة العربية, العدو قد يكون من يشبهك في اللسان والزي والدين بينما يُديره عقل آخر, ويرى العالم بعدسات أخرى, فيتحوّل الوطن عنده إلى شركة, والشعب إلى قطيع, والدين إلى أداة, والعدو إلى حليف, وصدام كان النموذج الأمثل لهذا الاضطراب في المعايير, لم يكن يرى في فلسطين إلا ورقة دعائية, ولم يكن يرى في إيران إلا مرآة تهدّد وهمه بالزعامة, فكانت الحرب عنده وسيلة للبقاء, وليس دفاعاً عن مبدأ او نضالا من اجل وطن, وكان سفك الدماء عنده اهون من كل هين.
لقد تغيرت ملامح الشرق الأوسط تماما بعد تلك الحرب اللعينة, وانتهت ايران مرهقة محاصرة تنهشها العقوبات والخذلان العربي, لكنها خرجت أكثر وعيا, واكثر إيمانا بأن العدو الاول لم يعد فقط في تل ابيب أو واشنطن, بل في الرياض وبغداد وعمان وتونس, حيث صُنع الطغيان المحلي ليكون خط الدفاع الأول عن الإمبراطورية, ومع ذلك فهي لم تعتدي او تتدخل ضد اي من هذه الدول ,أما العراق فقد خرج من الحرب مُفرغا من طاقته مديونا منهكا محطما من الداخل, لكنه ظل يتظاهر بالقوة, كانت هذه الهشاشة هي التي دفعته لاحقا إلى غزو الكويت في خطوة أخرى حمقاء كشفت أن من يفتح بوابة الجحيم لا يُغلقها بسلام, بل تبتلعه وتبتلع جيشه ومن معه, ولو لم تكن الحرب مع إيران لما كانت حرب الخليج, ولما جاءت بعدها العقوبات والحصار والتجويع والخذلان الطويل, ثم الاحتلال الأمريكي المباشر, ولكانت قضية فلسطين باحسن احوالها وربما كانت قد تحررت, كل هذا بدأ هناك, في تلك اللحظة التي قرر فيها صدام أن يطلق الرصاصة الأولى.
وما يجب أن يقال هنا, بل ما ينبغي أن يصل الى العالم اجمع, هو أن الحرب ليست مجرد حدث عسكري له بداية ونهاية, بل هي زلزال اخلاقي, تشق فيه المآسي صدوعا عميقة في النفوس, وتعيد تشكيل الهوية, وتعيد رسم الخريطة من جديد, ليس بالحدود, بل بالدماء, لقد دمرت حرب صدام على إيران العقل العربي, وأعادت تدوير نظرته إلى العدو والحليف, فصار المقاوم للعدو مشبوها، والحليف المطبع موثوقا, وتحولت فلسطين من قضية مركزية إلى موضوع هامشي, يلوكها الإعلام وقت حاجته اليها ثم ينساها وقت حاجتها اليه.
إن اخطر ما خلفته تلك الحرب ليس فقط الدمار المادي الكبير ولا الفقد البشري الهائل ,بل ذاك التآكل الداخلي في مفهوم العدالة والحق والعدو, لقد اعادت صياغة العقل الجمعي العربي بطريقة مشوهة, بحيث اصبح الشك هو المبدأ, والريبة هي الاصل, ويتم التعامل معالمقاومة كمشروع طائفي لا وطني, وفي ظل الدغاية الاعلامية للأنظمة صار كل من يقف في وجه (إسرائيل) مشبوها, وكل من يعادي إيران بطلا, وكل من يرفض الاستعمار متطرفا.. إن المأساة الكبرى أن ثمانية أعوام من الحرب, ثم الحروب التي تلتها غيرت بوصلات الشعوب, فبدلا من أن يُنظر الى الفلسطيني كرمز للحق, صار يُنظر اليه كورقة تفاوضية, وبدلا من ان يُنظر إلى العدو الصهيوني ككيان دخيل, صار شريكا محتملا في التنمية والسلام, لقد دخلت فلسطين في غيبوبة, ليس لأن العدو أقوى, بل لأن الحكام العرب تحولوا إلى جلادين.. الى خونة .. الى مرتزقة..
وهنا يبرز التساؤل العميق, هل يتم خطف القضايا الكبرى بالقوة فقط ؟ أم انها تُخطف بالوعي الموجّه؟ ان ما فعله صدام ومن دعمه من انظمة واموال وسلاح واعلام, لم يكن مجرد حرب تقليدية, بل كان سرقة ممنهجة للوعي, الى درجة ان الفلسطيني الذي دمر صدام قضيته يعتبر ايران هي العدو, واذا سُأل عن (اسرائيل) يقول هي اهون من ايران.. نعم فحين تُدار الحرب بشعارات مثل (الدفاع عن الأمة) و(الوقوف في وجه التمدد الصفوي) فإنك لا تحرك الجيوش فقط, بل تحرك العقول.. تعيد برمجتها.. تجعلها ترى في شقيقها عدوا, وفي عدوها شريكا.. وهكذا دخلت فلسطين طي النسيان, ليس لأننا نسيناها, بل لأننا أُجبرنا على النظر في الاتجاه المعاكس, حيث خلقوا لنا أعداء وهمين يملأون الشاشات والخطب والمساجد, أما العدو الحقيقي فكان يحتفل في تل أبيب.
إن نزعة الطغيان، كما تتجلى في نموذج صدام تقوم على أمرين اولهما خلق عدو دائم, وثانيهما تخدير الشعب بأسطورة النصر القريب.. لم يكن الطغاة بحاجة إلى إنجاز حقيقي, بل إلى (عدو ضروري) وهمي أو حقيقي, يتذرعون بوجوده ليُبرروا القمع الداخلي والحروب الخارجية, ولهذا لم تكن فلسطين قابلة للاستثمار السياسي في عهد صدام, لأنها تتطلب فعلا وليس قولا, وتتطلب مواجهة مع العدو الحقيقي, بينما هو كان بحاجة إلى عدو يصنعه بنفسه يحاربه بكل الوسائل, بينما العدو الحقيقي المجرم المحتل يقول في نفسه (ها نحن انتهينا من تدمير بلدين وشعبين وقوتين). وهكذا صارت إيران هي العدو, رغم أنها لم تحتل شبرا من أرض عربية، ولم تبدا حربا منذ قرون, وصارت إسرائيل حليفا ضمنيا, لأن الحرب على طهران خدمتها أكثر من أي شيء آخر, وهنا تتجلّى المفارقة الكبرى, حين يحارب الطاغية بإسم الأمة، لكنه يخدم عدوها، فإنه لا يُخطئ فحسب, بل يخرب منطق الوجود, يلوث اللغة, ويشوه المعاني, ويجعل من الحقيقة وهما ومن الخيانة بطولة.
اليوم وبعد عقود من ذلك العدوان, لا تزال آثاره حيّة ليس في الخرائط فقط او صفحات التاريخ وذاكرة الضحايا, بل في نفوسنا.. وفي خطابنا السياسي.. وفي بنية وعينا, لقد ورثت الأجيال الجديدة شرقا ممزقا, فيه فلسطين قضية منسية, والعراق أطلالا, وإيران محاصرة, ولبنان مدمرة وسوريا بيد الارهاب الذي صنعوه كنفوذ وحشي لهم, واليمن جريح، ومصر راكعة لاصنام الغرب, وليبيا ساحة صراع, والسعودية وسوريا تتسابقان الى التطبيع, والإمارات والبحرين تحت الابطن, وكأن كل شيء بدأ من تلك اللحظة الأولى التي قرر فيها صدام أن يطلق أول رصاصة ضد طهران, فلو لم يستنزف صدام العراق, لما أصبح طيعًا في يد الامريكان, ولو لم يهاجم إيران, لما اتخذت مسار الدفاع الدائم, ولما دخلت في سباق التسلح والاستعداد المستمر. ولو لم تُنسَ فلسطين في تلك اللحظة لما كانت بهذه الهشاشة اليوم, تُباع وتشترى وتختزل في مفاوضات عبثية وقمم خاوية وبيانات خجولة لا تغني من جوع ولا تعيد حقا.
وهكذا فإننا لا نقف أمام حدث تاريخي معزول, بل أمام زلزال تخريبي أعاد تشكيل وعي الأمة, وغير بوصلتها وزرع بذور الشك في أعدل قضاياها, لقد كان صدام تجسيدا لفكرة (الطاغية المُصنّع) ذلك الذي يُلمّع اعلاميا, ويُدعم ماليا, ويُطلق عليه ألقاب البطولة, بينما يُستعمل لتدمير ما تبقى من كرامة الامة ووحدتها, لقد هزم فلسطين في حربه ضد ايران , هزمها في الذاكرة العربية والاسلامية, وفي ذاكرة الاجيال, وذاك أخطر أنواع الهزائم, وأن من ينسى قضيته لا يستحقها, وقد نسيها العرب.
وهكذا حين نتأمل في سيرة الحروب والطغاة, لا نقرأ التاريخ كما يُقرأ في الكتب, بل كما يُقرأ في العيون والعقول التي تبصر الحقائق, وفي القلوب التي حطمها الحزن, وفي خرائط الذاكرة التي أُعيد رسمها بدم الأبرياء.. إن العدوان الصدامي على إيران لم يكن حربا تقليدية فحسب, بل كان اختلالا في منظومة الوعي, انقلابا في سلم الأولويات, وسقوطا أخلاقيا مروعا في عمق الضمير العربي, لقد فتح هذا العدوان بوابات الجحيم لتخرج منها كل الكوارث اللاحقة, من غزو الكويت إلى احتلال العراق, ومن انفجار الطائفية إلى تهميش فلسطين، حتى أصبحنا اليوم أمة تتقاتل على الفتات, وتتنازل عن الحق, وتشكّ في نفسها قبل أن تشك في عدوّها.
وحين نبحث عن فلسطين اليوم لا نكاد نجدها في نشرات الأخبار, ولا في برامج التعليم, ولا في قلوب الكثيرين, لولا مايجري في غزة اليوم.. إنها هناك ترفرف كطيف باهت في خطابات رسمية جوفاء, أو تُوظّف ككلمة مرور إلى شرعية كاذبة, نعم فحكامنا يستغلون كل شيء حتى المذلة التي هم فيها كي يصلوا الى الحكم أو كي يبقوا فيه ,لكن الحقيقة هي أن فلسطين لم تُهزم في حرب 48، ولا في 67، بل هُزمت حين تخلّى عنها إخوتها في لحظة مفصلية, حين شغلوا الأمة عنها بحرب عبثية دامت ثماني سنوات, قُتل فيها مئات الآلاف من خيرة شبابها, ودُفنت معها إمكانيات النهوض. من هنا لا يكون تقييم الحروب بمن انتصر في المعركة, بل بمن خسر البوصلة, وقد كانت البوصلة فلسطين, وضاعت.
إننا لا نحتاج اليوم إلى نظرية جديدة فقط, بل إلى ضمير جديد.. إلى وعي يعيد ترتيب العدو من الصديق, ويعيد تعريف البطولة بعيدا عن الدم المراق في غير مكانه, وعن الخطب المسمومة التي تحوّل الطغاة إلى أبطال, والخونة إلى مخلصين.. نحتاج إلى لحظة تأمل وجودية نسأل فيها انفسنا, كيف انقلبت المعاني؟ كيف أصبح من يقف مع الحق طائفيا, ومن يطبّع مع الاحتلال رجل سلام؟ كيف هُجّرت القضية من الذاكرة, لا من الأرض فقط؟ كيف أُجبر الفلسطيني أن يشكر قاتله, وأن يُتّهم المقاوم وهوبين أهله؟
الجواب كله في تلك اللحظة التي أمسك فيها صدام بالزناد, لا ليدافع عن أرضه, بل ليقتل وعي الأمة.. وفي هذا ليس من المبالغة القول, إن أخطر أعداء فلسطين لم يكن الصهيونية فحسب، بل الذي كان على عرش في بغداد, لكن الحقيقة لا تموت وإن غابت.. وفلسطين ما زالت هناك بانتظار من يعيد الحق إلى مكانه, والبوصلة إلى جهتها, والتاريخ إلى مساره.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat