بسبب الفساد وفي هذه الايام الخطيرة التي نعاصرها من حاضرالعراق, يعتقد البعض ان الديمقراطية التي ينعم بها جاءت له بالخطأ, فيترددون ويشككون ويرفضون أو يدعون إلى المقاطعة وكأنهم بذلك يمارسون فعلا بطوليا, بينما الحقيقة أن الواقع لاتتم مواجهته بالهروب, ولا يتم اصلاحه بالانسحاب, ولا تغييره بالعزلة عن الاحداث, بل بالفعل وبالصوت وبالاختيار, كما إن الدعوة إلى عدم المشاركة في الانتخابات البرلمانية ليست دعوة إلى الإصلاح, بل هي في جوهرها- وإن اتخذت لبوس النقد أو التمرد على الفاسدين- فعل هدمي ينزع الشرعية عن المسار بأكمل ، مسار شاق تشكل من آلام الشعب وجراح التاريخ, وامتزج بدماء الشهداء وصبر الأمهات وآهات السنين الطويلة التي طويت بالقهر والظلم والظلام.
رغم اني مستقل سياسيا ولكن من حقي ان اسأل هؤلاء الذين يرفعون راية المقاطعة, ما الذي يريدونه حقا؟ أهو الخلاص من الفساد, أم الانتقام من كل ما هو قائم؟ وهل يتم القضاء على الفساد بهدم البناء أم بإصلاحه؟ ان من ينكر ان العراق بعد 2003 قد تبدل, إنما ينكر الشمس في وضح النهار.. نعم, لم نبلغ الاحلام الكبيرة, وما زال الطريق وعرا, ولا يمكن المقارنة بين الديكتاتورية البغيضة والديمقراطية , الديكتاتورية لم تبق للعراقي حتلى كرامته والديمقراطية جعلته حرا ينتقد ويختار ويشارك ويبني , أي حرية كانت لنا قبل 2003؟ حرية الموت والرعب بصمت؟ حرية التطبيل (والهوسات) للجلاد؟ حرية أن نُسجن لأننا فكرنا بصوت عالٍ؟ أي راحة كانت للعراقي حين كان يخاف من اطفاله أن يسمعوا كلمة منه تسيء الى النظام , فيصبح هو وعائلته في خبر كان؟ هل هو الحنين الى الحروب والدمار وانتهاكات حقوق الانسان؟ ام هو تمهيد لتغيير النظام السياسي الديمقراطي برمته؟
البعض يتحدث عن فساد ما بعد 2003 وكأنه جديد, متناسياً ان الفساد كان متجذراً في بنية النظام السابق, لكن الفارق ان الفساد اليوم مكشوف تتناوله وسائل الاعلام ويقاومه الشعب , بينما كان ايام النظام الصدامي مخفيا, ولكن يعرفه ويخشىاه الجميع، ويُعتبر حكمة من الحاكم الملهم, القائد الضرورة,, ان المأساة ليست في وجود الفساد, بل في من يبرر وجوده عن طريق الندم على (الزمن الجميل).. الذي لم يكن فيه كهرباء, ولا ماء نظيف, ولا إعلام حر, ولا انتماء سياسي , كانت الكهرباء تاتي ساعتين في اليوم , وكان الماء عبارة عن سموم , وكان الاعلام عبارة عن قناة تلايفزيونية واحدة خاصة لترهات النظام, والويل لمن كان يُشك في ولائه السياسي , اما قطع الاذان والالسن والايادي فحدث ولا حرج ,كان ماضياً اختنقت فيه الارواح, وكنا نخاف حتى من الجدران لشدة الرعب.
قد يقول البعض إن العراق اليوم بلا أمن, وإنه بلد يتخبط في أزماته, ونحن لا ننكر ذلك, ولكن فلنكن واقعيين, هل كان الأمن في ظل صدام أمناً حقيقياً؟ أم كان عبارة عن الخوف والسكوت؟ ان الأمن ليس بالصمت الذي كان يخيم على شعب كامل, بل بحرية الناس ولو داخل بيوتهم, بقدرتهم على الحلم بالتعددية التي تقبل الآخر, وليس بالقبضة الحديدية التي تسحق المختلف.. نعم العراق فقد الأمن بعد 2003 لكنه كسب الحرية, والحرية طريق وعر لا يسلكه إلا من آمن ان الانسان كائن اخلاقي قبل ان يكون عبدا لديكتاتور.
صحيح ان الانتخابات ليست حلا سحرياً, ولا ينبغي لها أن تكون كذلك, لكنها وسيلة.. أداة.. فرصة,.. فإن لم تكن الأفضل فهي الممكن, وإن لم تكن طوق النجاة فهي المسار الذي يحافظ على الآمال حية. . مقاطعة الانتخابات لأنك غاضب, يشبه ان تهدم بيتك لأن شباكاً فيه لا يعجبك.. المقاطعة لا تصفع الفاسدين, بل تفتح لهم الباب على مصراعيه.. إنها لا تعاقب المقصر, بل تعاقب الوطن وتدفعه نحو الفراغ, والفراغ لا يُملأ إلا بالظلام..
من هنا فإن الدعوة إلى عدم المشاركة ليست فعلا بريئا, بل فعلا يقود الى زعزعة النظام, لا بمعناه السلطوي, بل النظام بمعناه الوجودي, تلك البنية التي تحمي الدولة من التفسخ, وتحمي المواطن من الفوضى, وتحمي المستقبل من ان يتحول إلى ماض نندم عليه بمرارة..
لقد كتبنا ضد الفساد, وضد المحاصصة وضد الإهمال ولم نسكت عنه ولم نساوم على كلمة , لكننا مع النظام لا مع الفوضى.. مع الدولة لا مع الانهيار.. مع النقد لا مع الإلغاء.. إن اقصر طريق لعودة الطغيان هو ان تُعلن كفرَك بكل شيء دفعة واحدة.. ان ترفض المؤسسات لأن فيها خللاً.. أن ترفض الانتخابات لأن فيها من لا يعجبك.. أن ترفض السياسة لأن فيها من خانوك... لكن ماذا بعد الرفض؟ أليس الرفض المطلق بابا للفوضى المطلقة؟ وهل نريد العراق متطورا جديدا ديمقراطيا أم لا نريده على الإطلاق؟
لقد أنعم الله علينا بالخلاص من صدام, وهذه نعمة لا يجوز أن تنمحي من الذاكرة.. ليس لأننا نريد أن نعيش على اطلال الماضي، بل لأن من ينسى القيود يشتاق إليها.. ومن ينسى السجن يمجّد السجان.. ان الشعوب التي تضحك على آلامها وتلعن حاضرها وتحلم بالماضي هي شعوب تائهة بلا بوصلة.. أما العراق فقد بدأ طريقه وعلينا أن نمضي فيه لا أن نعود الى الوراء.. الانتخابات, رغم عيوبها هي الروح التي تنبض في جسد هذا العراق المتعب, وهي الأمل الوحيد في ان يكون لنا وطن نحبه كما هو لا كما نتخيله في خيال يائس.
فلنُصوّت ليس لأننا مخدوعون, بل لأننا نعرف الحقيقة ولأننا نؤمن ان التغيير لا يكون بالانسحاب ,بل بالمواجهة.. بالكلمة.. بالصبر.. وبالإيمان العميق بأن الوطن لا يُبنى بتهديم البناء , بل بترميم ما تهدم , وأن الديمقراطية مهما كانت مشوهة تبقى أفضل من ديكتاتورية مزخرفة تبذر الملايين لتحتفل بمولد الديكتاتور, وأن الحرية حتى لو كلفتنا الكثير, تبقى أثمن من الأمن الكاذب الذي يفرضه الخوف. فالعراق وطننا وصوته أمانة في رقابنا, لا ينبغي أن نتركه وحيدا تائها في صحراء الضياع .


التعليقات
لا توجد تعليقات على هذا المقال بعد. كن أول من يعلق!