أهمية تجارب الوالد لحياة ولده
جاسم محمدعلي المعموري
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
جاسم محمدعلي المعموري

ان من أقدس العلاقات التي نسجها الله في بنية هذا الكون هي العلاقة بين الأب وابنه, هذه العلاقة التي تتجاوز حدود الدم والنسب , لتصل الى عمق التجربة والمعرفة والبصيرة , ففي قلب كل اب تتراكم التجارب كما تتراكم الأمواج على شاطئ الزمن, ويقف الأب حين يشتد عود ابنه موقف الموجه الناصح . وليس موقف المتسلط القاسي, إذ يدرك ان ما نحتته السنون على صدره من حكم وعبر يمكن أن يكون زاداً لابنه في رحلة الحياة التي لا ترحم الغافلين, وإننا حين نتأمل وصايا لقماان لابنه كما وردت في سورة لقمان من الآية 13حتى الاية 19نجد نموذجا عظيما لوصية اب حكيم قد خبر الحياة وتقلّب في دروبها فخرج منها بحكمة تتجاوز الزمان والمكان.. يقول الله تعالى, وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم, هنا تبدأ الوصية من أصلها.. من التوحيد.. من تصحيح العقيدة.. من الجذر الذي إن فسد فسد كل شيء, وما كان لقمان ان يبدأ بشيء سوى هذا, لأنه يدرك ان اعظم نصيحة يمكن أن يقدّمها الأب لابنه هي ان يعرف ربه معرفة لا يشوبها شك, ولا يداخلها انحراف, لأن الاعتقاد السليم هو الأساس الذي يُبنى عليه سلوك الإنسان وأخلاقه ومواقفه كلها , ويلي ذلك وصية بر الوالدين, ولكن الأمر العجيب أن الوصية ببر الوالدين جاءت مباشرة بعد التوحيد ,كما ورد في قوله تعالى ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير ..هذه الوصية تدل على ان العلاقة بين الأب وابنه لا تقوم على مجرد السلطة, بل تقوم على عمق التقدير والاعتراف بالعطاء المتواصل.. لكن لقمان لا يترك لابنه مجالا للخلط في المفاهيم, فهو لا يريد منه ان يبر والديه على حساب الدين, فيقول وإن جاهداك على ان تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبِع سبيل من أناب إليّ ..هذا التوازن الدقيق بين البر والولاء لله لا يتأتى إلا لمن خبر الحياة وعرف مواضع الخلل والزلل في النفوس والقرارات, ويدرك ان من أعظم ما يمكن أن يُغرس في نفس الابن هو الوعي والتمييز بين البر والطاعة العمياء فالحياة ليست ساذجة والطريق ليس واحدا وكل مرحلة تتطلب بصيرة..
ثم ينتقل لقمان إلى مستوى أعمق من التوجيه فيقول, يا بني إنها إن تكُ مثقال حبّة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأتِ بها الله إن الله لطيف خبير.. إن هذا التصوير العجيب لمعرفة الله الدقيقة بكل شيء حتى لو كان في أقصى زوايا الوجود, هو درس في المراقبة والضمير.. هو درس في ان الاب لا يمكن أن يلاحق ابنه في كل موضع, ولكن الله حاضر.. شهيد في كل لحظة, وهذا نوع من التربية لا يعتمد على الترهيب, بل على استحضار عظمة الخالق في قلب الابن, فلا يضل حين يغيب عنه أبوه , ولا ينحرف حين تسكت النصائح ,لأن الضمير الحي هو ما زرعه الأب الحكيم في قلب ابنه..
ويواصل لقمان وصاياه فيقول, يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور.. في هذه الوصية يجمع لقمان بين أركان التديّن والعمل المجتمعي والصبر على نتائج الدعوة, وهي مكونات شخصية متكاملة تعكس ما ينبغي أن يكون عليه الابن الصالح النافع لنفسه ولغيره, ويعلمه بذلك أن الحياة ليست دائما سهلة وأن من يسير على طريق الخير قد يصيبه الأذى, لكنه لا يتراجع, لأن الصبر من عزم الامور.. وهنا تتجلى حكمة الاب الذي لا يريد لابنه ان يحيا برفاهية سطحية بل يريد له القوة النفسية والصلابة الأخلاقية..
ثم تأتي وصيته التي تحمل من العمق التربوي ما قد يفوق ما سبقها حين يقول, ولا تصعّر خدك للناس ولا تمشِ في الأرض مرحا ًإن الله لا يحب كل مختال فخور ..هنا يعلم الأب ابنه كيف يتعامل مع الناس.. كيف يقف في المجتمع ..كيف يزن نفسه فلا يتكبر ولا يتصنع ولا يظن ان ما ناله من علم او مال أو جاه يرفعه فوق الآخرين, ان التواضع ليس خلقا ثانويا, بل هو ركن من أركان البناء النفسي السليم, لأن المتكبر لا يتعلم ولا ينمو ولا يبني علاقات حقيقية.. وهنا تبرز اهمية تجربة الأب الذي مرّ بالناس وعرفهم وعرف كيف ان الغرور هدم الكثير من القلوب والعقول..
ثم يختم لقمان وصاياه بالقول, واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير.. وهذه الوصية التي تبدو بسيطة في ظاهرها, هي في الحقيقة قمة ما يمكن أن يوصي به أب ابنه, لأنها تدخل في تفاصيل الحياة الدقيقة.. إنها لا تتعلق بالعقيدة ولا بالأخلاق الكبرى فقط , بل تتعلق بالسلوك اليومي.. بالصوت.. بطريقة المشي.. بالمظهر العام.. لأن هذه التفاصيل تصنع الصورة الكاملة للإنسان في أعين الناس ومجتمعه, بل تصنع احترامه لنفسه, فمن يضبط صوته, يضبط غضبه ومن يتحكم في مشيته, يتحكم في اندفاعه..
وتأتي هذه الوصية ضمن منهج متكامل في التربية يظهر فيه ان الأب لا يكتفي بتعليم المبادئ الكبرى, بل يحرص على التفاصيل , لأن فيها تظهر التربية الحقيقية.. ان الذي يقول لابنه اغضض من صوتك, هو أب عاش الحياة ورأى كيف أن الأصوات العالية لا تعبر عن قوة, بل عن جهل, وان الذي يصرخ ليس دائما محقا , بل قد يكون مفتقرا إلى الحجة والرزانة, ان تشبيه الصوت العالي بصوت الحمير في القرآن تشبيه صادم , نعم هو كذلك, لكنه يحمل رسالة صريحة بأن الصوت المرتفع بلا داع ليس شجاعة ولا رجولة, بل هو نفور , وهو ما بيّنه العلماء في كتب التفسير, مثل تفسير الميزان للطبأطبائي وتفسيرالطبري , وتفسير ابن كثير وغيرهم حين أشاروا الى ان المقصود هو النهي عن الفظاظة في الحديث والصياح المزعج الذي لا يليق بالخلق الكريم..
ومن خلال هذه الوصايا كلها يظهر جليا كيف ان الأب حين ينصح ابنه لا يقدّم له مجرد كلمات عابرة, بل يضع أمامه خريطة حياة , ويحمّله أمانة السير على الصراط المستقيم , وهذه العلاقة حين تُبنى على الحكمة والخبرة والموعظة الخسنة تنتج أجيالا متزنة وواعية, يعرف الأبناء فيها ان آباءهم لم يكونوا اوصياء قسوة, بل كانوا شموعا اضاءت لهم الطريق قبل أن يحترقوا في صمت.. وفي هذا السياق نجد أن وصايا لقمان لم تكن مجرد تعليمات, بل كانت تربية متكاملة شملت العقيدة والسلوك والعبادة والعلاقات الاجتماعية والأدب في الحديث والحركة وكل ذلك يدل على ان دور الأب لا ينتهي عند توفير الطعام والكساء, بل يبدأ حقا حين يجلس مع ابنه ويقول له يا بني بهذا النداء الحنون الذي يفتح القلب ويهيّئ النفس للتلقّي..
إن العالم اليوم مليء بالتشويش والانحرافات, وان الحاجة إلى آباء حكماء تزداد يوما بعد يوم.. آباء لا يكتفون باللوم والتوبيخ, بل يقدمون النصح المؤسس على تجربة الحياة , وعلى فهم دقيق لنفوس أبنائهم , ويصبرون على زلاتهم, ويقودونهم بالحكمة وليس بالعنف وبالرفق وليس بالغضب.. إن الأب حين يفهم ان ما يقوله لابنه اليوم قد يظل في قلبه وعقله سنوات طويلة, يدرك أن الكلمة قد تكون جسرا يعبر عليه الابن نحو النجاة , أو حفرة يقع فيها إلى الهلاك..
إن وصايا لقمان لم تُخلّد في القرآن عبثا, بل لأنها تمثّل قمة الحكمة التربوية التي يمكن أن تبلغها علاقة بين اب وابنه, وهي دعوة ضمنية لكل الآباء ان يحملوا هذه الأمانة بجد ومسؤولية, وان ينظروا إلى اولادهم لا على انهم مشاريع نجاح شخصي, بل على أنهم أمانة ربانية تحتاج إلى صدق وتفانٍ وتوجيه..
وختاما فإن الأب الذي ينصح ابنه حتى في كيفية خفض صوته, هو اب يحمل من الوعي ما يجعله يربّي إنسانا لا مجرد ابن, هو أب يعرف ان التربية الحقّة ليست في الكلمات الكبيرة فقط , بل في اللمسات الصغيرة التي تصنع الفرق الكبير , وإن خبرة الأب إن أُحسن نقلها صارت ميراثاً من الحكمة لا يقدَّر بثمن..
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat