صفحة الكاتب : جاسم محمدعلي المعموري

لم يبقَ في عينيَّ دمعٌ لأبكي..
ولا في صدريَ متّسعٌ لآهاتي,
كأنني آخرُ الناجينَ من سفنِ الرماد,
كأنني أوَّلُ الراحلينَ بلا جهةٍ,
وبلا ظلٍّ..
ولا ضوءٍ
ولا امرأةٍ تلوّح من الشرفةِ المطفأة.

 

أمشي على وترِ الذكرى,
أراني حجرًا قديمًا
حَفِظَ صدى المطرِ في شقوقه ,
وكلّما أغمضتُ قلبي,
سمعتُ الغيابَ
يُصفِّقُ كجناحِ طيرٍ جريح
في مهبِّ القصيدة.

 

يا أرضَ الأنبياء،
يا يَبابًا يشبه اسمي حين أناديهِ
ولا يُجيب ,
كم مرّةً سلختِ جلدي لأكونَ شهيدًا
في صحيفةِ المساء؟
كم مرّةً قلتِ لي:
"كن نبيًّا أو لا تكن!"
لكنني لستُ نبيّا
ولا قاتل ,
أنا مجرّدُ غيمةٍ
ضَيَّعتْ مائها في حناجرِ الجرحى.

 

أيا موتًا على البابِ,
هات يدكَ..
لأصافحَ نهايتي بتهذيبِ شاعرٍ تَعِب,
أو لأكتبَ على صدركَ:
"هنا
توقّفَ القلبُ عن حبِّ الذينَ لا يأتون."

 

فلا تسأليني عن الأمس,
ولا تطلبي منِّي نشيدًا ,
فأنا صوتٌ مكسور,
أنا ناقوسُ كنيسةٍ
لم يجدْ مؤمنًا كي يُقيمَ له قدّاس الغفران.

لم يبقَ في عينيَّ دمعٌ لأبكي,
ولا في صدري متّسعٌ لآهاتي-
خذوا هذا الفراغ ,
وانقشوا عليه خارطةَ البكاءْ,
فأنا البلادُ إذا انطفأتْ مصابيحُها,
وأنا القصيدةُ حين يأكلها القَحْطُ,
وتبكي على أطلالها المفردات.

 

سافرتُ في جلدي,
كان الوطنُ ندبةً,
والأمُّ خيمةَ لجوءٍ على كتفِ الوقت ,
كأنني ابنُ الغيابْ
لا يعرف اسماً, ولا قمحاً, ولا رايةً
تحتضنُ انكساره.

 

أيُّ نبيٍّ يجيء بعدَ الطوفان؟
من سيكتب سِفرَ الرماد,
ويُحصي شهداءَ القصائد
حين لا يبقى من اللغةِ
غيرُ نداءٍ معطوبٍ
يصدر من حنجرةٍ مذبوحة؟

 

يا موتُ،
أيّها الظلُّ الذي يربّت على كتفي
كأخٍ نسيَ اسمي,
تعال,
لنُطفئَ هذا الحريقَ معًا,
فلربما كان في احتراقِ الجسدِ
نورٌ جديد.

 

لم أُولدْ كي أكون نجمًا في بلاغةِ الخراب,
ولا قُتلتُ كفايةً كي أُصبح أيقونة,
أنا مجرّدُ سطرٍ
سقط من فمِ الشاعر
حين خانهُ الوزنُ
فصارَ المعنى أكثرَ صدقًا.

 

أيتها المدنُ المُطفأة,
أنا ابنُكِ الضالُّ,
أعرفُ شوارعكِ
كما يعرفُ العطشُ مجرى النهر,
وكلما فتحتُ النافذة
صفعني وجهُ الغياب,
وقال لي:
"لن يجيء الذين تنتظرهم,

يا وطنًا،
يُشيِّعُ أبناءَه كلَّ صباحٍ
ويعودُ ليصلي على اسمه,
يا رغيفًا ,يا حلم الجائعين,
يا نعشَ المعنى,
وجُحرَ العار,
يا..
كلَّ ما لا يُقال.

 

ها أنا ذا,
منطفئٌ كنجمةٍ عتيقة,
توضأتُ بالشكّ,
وصليتُ بكتابٍ مُمزّقٍ من فمِ النبوّة.

في داخلي نارٌ لا تهدأ,
ولا تنطفيء,
لكنها ترقص -
كأنها آخرُ رقصةٍ للمعنى
قبل أن يُسْحَبَ من لسانِ الشعراء.

 

أيتها اللغة,
كم نبيًّا قتلتِ
حين خانَهُ الوزنُ,
وكم من حالمٍ
علّقَ قلبه على جملةٍ ناقصة,
فانكسر.

 

تحت المطر,
يأتي وجهٌ غريبٌ من الضباب,
وفي عينيه بصيرةُ الطين,
يقول:
"لا أحد يعودُ من البحرِ كما كان,
ولا أحد يُشفى من الوطن."
ثم يبكي.

 

وفي جهةٍ أخرى,
يمدُّ إصبعَه إلى الفراغ ويهمس:
"هنا... تبدأ القصيدة,
حين لا يعود فيها شاعر,
ولا جمهور,
بل ضوءٌ يسافرُ وحده,
فوق مقبرة المعاني."

 

وأنا بين هذين الوجهين,
لا نبيٌّ,
ولا حطام نبوءة,
أنا لسانُ الماء,
حين يسقط في فمِ التراب
ويصير صمتًا.

يا جوعَ غزّة,
يا آخرةَ العالم,
خُذْ ما تبقّى دمي,
خُذ حنجرتي,
إن كان في الصوت خلاصٌ
لطفلٍ لا يعرف شكلَ الرغيف.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


جاسم محمدعلي المعموري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/10/07



كتابة تعليق لموضوع : توضأتُ بالشك!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : جاسم محمد علي المعموري ، في 2025/10/07 .

احبتي، السلام عليكم .. في المقطع الأخير، وفي هذه الجملة ( خذ ماتبقى دمي) سقط مني حرف الجر اثناء الكتابة والصحيح هو ( خذ ماتبقى من دمي ) فاستميحكم العذر أعزائي القراء الكرام ..




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net