كيف نصنع أثرًا مما نقرأ؟
عبد العزيز ال زايد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
عبد العزيز ال زايد

هل رأيت شخصًا يروج للقراءة وكأنها نهاية المطاف؟ رغم أهمية القراءة، إلا أنها ليست كل شيء، ولا تعني مجرد امتلاك مكتبة واسعة السيطرة على زمام المعرفة. كم من قارئ اجتاز كتبًا عظيمة، كما يعبر نهرًا دون أن تبتلّ أقدامه؟ المشهد الثقافي اليوم مزدحم بـ "القرّاء الصامتين" الذين يلتهمون الصفحات بشغف، ثم يغلقون آثارها مع إغلاق الغلاف.
إن القراءة ليست نهاية الطريق، بل بداية الرحلة. القراءة هي الوقود، لكن بلا محرك يظل الوقود ساكنًا لا يحرك العربة. ولحظة إغلاق الكتاب هي اللحظة التي يُفترض أن تبدأ فيها الرحلة الحقيقية نحو التأثير.
1. من التلقي إلى التحليل
المعرفة ليست بما تقرأ، بل بكيف تفهمه. القارئ الحقيقي لا يكتفي بابتلاع النص كما يبتلع قرص الدواء العجيب، بل يفككه، يحاكمه، ومن ثم يعيد تشكيل بناءه. التفكير النقدي هو درعك ضد التلقين، وهو ما يحوّل كل كتاب من واعظٍ صامت إلى ثروة حوارية تضج بالحياة، تنقل الدماغ من حالة الجمود الصخري إلى تفاعل خلية النحل النشطة. والسؤال إليك الآن: ماذا لو قرأ أحدهم مائة كتاب عن نهرٍ مليء بالأسماك. حفظ المعلومات عن ظهر قلب وعرف المحتوى بكل دقة، لكنه لم يصطد منه سمكة واحدة. وفي الختام مات جوعًا بجوار مكتبته العظيمة، ما الذي استفاده من كل تلك المعلومات والمعارف؟ المعرفة التي لا تُطبّق كهذا المثقف العظيم الذي ينتظره يوم أسود لا يجد فيه قوت طعامه. هل فهمت الدرس جيدًا؟
2. من الفهم إلى الصياغة
يحتاج القارئ الحصيف إلى بعض المهارات الضرورية التي لا غنى عنها لاكتمال نماء شخصيته الثقافية، فمن يعرف الفكرة جيدًا، يستطيع شرحها ببساطة. عليه نرى أنّ التلخيص والاختصار مهارتان جوهريتان بعد القراءة. فإذا تمكنت من إعادة صياغة كتاب كامل في فقرة، أو تمكنت من شرح نظرية معقّدة في جملتين، فإنّ هذا يعني أنك فهمت حقًا. ومع التكرار والممارسة، ستتكون لديك لغة خاصة وأسلوب فريد، لا تُشبه فيه أحدًا. فلماذا لا تجرب حظك ومهارتك؟
3. من المعرفة إلى التجربة
ما فائدة قراءة كتب عن التنظيم دون تنظيم الوقت؟ وما فائدة قراءة كتب عن العلاقات دون تحسين العلاقات؟ القراءة لا تُثمر دون تطبيق. المعرفة وحدها لا تبني حياة، ما لم تلمس الواقع وتغيّره. وإليك الحكاية: يحكى أن فلاحًا بسيطًا ورث عن أبيه كنزًا من البذور النادرة. قرأ عن خصوبة التربة ومواسم الزراعة. لكنه لم يغرس حبة واحدة. حتى ذوت البذور واضمحلت وانتهت صلاحيتها، ولم ينتج أي محصول، فما الذي استفاده من قراءته والكنز الذي بين يديه؟
4. من الفعل إلى التأثير
كثير من القراء لا يعرفون سحر القراءة، وسحرها يكمن في نقل السطور الجامدة إلى ساحة الواقع، أي من فعل القراءة إلى التفاعل والتأثير من خلالها، فبعد أن نطبق المعارف التي نتحصل عليها من بطون الكتب، سنكتشف أن هناك ما يستحق المشاركة. ونقل المعرفة لا يعني التكرار، بل يعني إعادة الصياغة بما يناسب واقع من حولك. والقارئ الفاعل يُعلّم، يُناقش، يُلهم، لا ليظهر عِلمه زهوًا وتبخترًا، بل ليرفع منسوب الوعي.
وإليك قصة نجار امتلك أدوات فاخرة وقرأ كثيرًا عن النجارة. لكنه لم يصنع سوى كرسيًا واحدًا. بينما أصحاب الدكاكين المجاورة صنعوا الأعاجيب. فماذا نستفيد من هذه الحكاية؟ باختصار نقول أن المعرفة بلا عمل مثل الأدوات الصدئة التي تأخذ حيزًا ولا تُنتج. أليست هذه صورة من يقرأ ولا يعمل؟
5. من التعلّم إلى التأليف
والآن إليك حكايتي، كان بمقدوري أن أكون قارئًا بل قارئًا نهمًا وكفى! لكني أدركت أنه بعد الاستهلاك يجب أن نرى الانتاج، فالشجرة التي تمتص الماء تُثمر، فماذا أثمرت قراءاتنا؟ عندما يكتب القارئ، يفتح دائرة التأثير. أنا أقول لك أنت لا تحتاج لشهادة أو اعتراف من أحد. كل ما تحتاجه استطاعة التعبير عن تجربة، أو شرح مفهوم، أو نقد فكرة، حينها أقول لك: أنت مؤلف بالفعل. إنّ الكتابة هي تتويج رحلة المعرفة، والوسيلة التي تمنحك صوتًا في زمن الضجيج. هل سمعت بقصة المرآة العجيبة؟ يحكى أنّ رجلًا امتلك مرآة عجيبة تكشف له العيوب النفسية بدقة. ثم قرأ كتبًا عن الإصلاح النفسي. لكنه لم يُغيّر شيئًا. ظل يرى العيب ويعرف الدواء، لكنه لم يُعالج حتى نفسه. ما نستفيده هو أنّ الرؤية وحدها لا تكفي، إن لم تتبعها خطوة.
في الختام القراءة بوابة لا نهاية لها، وليست هي نهاية الطريق، بل بدايته. القراءة هي الشرارة، وليست اللهب. إنّ العالم لا يحتاج لمزيد من "القرّاء الصامتين" الذين يُغلقون الكتب ثم من بعدها يُغلقون عقولهم. بل يحتاج إلى من يحوّلون الحبر إلى فكر، والفكر إلى فعل، والفعل إلى أثر. والآن اقرأ، نعم. لكن لا تتوقف عند هذا الحد، فبعد القراءة، تبدأ رحلة الحياة الحقيقية.
عبدالعزيز آل زايد
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat