صفحة الكاتب : جاسم محمدعلي المعموري

استراليا تطرد سفير ايران .. من المستفيد؟!
جاسم محمدعلي المعموري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

في الوقت الذي تختلط فيه الأصوات، ويعلو الضجيج على المعاني، جاء هذا الحدث لا كزلزال سياسي فحسب، بل كنبأ يحمل معه الكثير من علامات الاستفهام، وكأن العالم لا يتغير إلا حين تهتز أوراق السفارات وتُغلَق الأبواب في وجه السفراء. أستراليا تطرد مبعوث إيران، وتتهم طهران بأنها اليد الخفية وراء هجمات وُصفت بأنها معادية لليهود. وردّت إيران نافية، بصوت لا يرتجف، قائلة إن لا يد لها في الأمر، وإن العداء لليهود لا يسكن قلبها ولا يتسرب إلى سياستها. وكان لزامًا على العقل أن يقف في منتصف الطريق بين ادعاء ورفض، بين طرد واحتجاج، بين من يرى ومن يصرخ: "أين الدليل؟" فعلى المدعي البينة, أليس كذلك؟!

لم يكن مشهد الطرد جديدًا في قاموس الدول، لكنه نادر هنا، شديد الوقع، كصفعة في غرفة من الصمت. طرد سفير ليس مجرد إجراء، بل موقف، إدانة، حُكم غير صادر عن محكمة. والذين قرأوا هذا الحدث كما لو أنه نتيجة طبيعية لتحقيقات سرية، ربما لم يسألوا أنفسهم السؤال الأبسط: لماذا الآن؟ لماذا بهذا الشكل؟ وإن كانت الأدلة واضحة كما يُقال، فلِمَ تُخفى في أدراج الأجهزة، ولا تُلقى في ساحة الرأي العام؟

الذين صنعوا الهجمات قد يكونون معروفين، وقد يكونون مجرد بيادق في لعبة أعقد مما تُظهره العناوين. وربما هم أنفسهم، حين ضاقت عليهم السبل، اتهموا بلدًا بعيدًا، يرفض منذ زمن طويل أن يركع للغرب، كي يخففوا من مصيرهم. وإن صح هذا الاحتمال، أليس من الجنون أن تتحرك دولة بأكملها نحو طرد ممثل أمة، بناءً على اتهام لم يُفصَّل؟ وإذا كانت أجهزة الأمن على يقين، فهل يكفي هذا اليقين وحده ليُبنى عليه قرار بحجم قطع العلاقة؟

هناك من سيقول إن إيران تتخفى خلف شعاراتها، وإن ما يجري خارج حدودها أحيانًا لا يكون في علم قادتها. لكن هذا القول، رغم بساطته، يطرح مأزقًا: هل يُعقل أن تتحرك سفارة دون علم من الدولة التي تمثلها؟ وإن كان الأمر كذلك، ألا يعني ذلك أن الجرم الأكبر يكمن في ضعف دولتها لا في خبث نيتها؟ وإذا كانت تعلم، فلماذا تنفي بهذه الصرامة، وبهذا الهدوء، الذي لا يشبه ارتباك من ضُبط متلبسًا؟

ثمة خلل في الرواية، فرائحة التصعيد تأتي من أكثر من جهة. لعلّ أستراليا وجدت في هذا الاتهام فرصة لإعادة تموضعها في خارطة التحالفات، أو ربما أرادت أن تؤكد قربها من جهة بعينها في لحظة تتغير فيها موازين العاطفة الدولية. وربما أيضًا أرادت أن تُظهر صرامة لا تُرى إلا حين يكون الخصم بعيدًا، ولا يُخشى ردّه. ومن جهة أخرى، تقف إيران منذ قرون دون أن تبادر إلى اي عدوان، كما يشهد تاريخها، مكتفية برفع صوتها حين تُحاصر أو تُهاجَم، فهل من المنطق أن تبدأ فجأة بالعبث داخل حدود دولة أخرى، في قارة لا يجمعها بها سوى خيوط السياسة المتوترة؟

تتشكل الحقيقة أحيانًا من أجزاء غير مكتملة، لكنها لا تُمنح كاملة لمن لا يسأل. ومن يسير خلف الرواية الرسمية دون أن يتوقف، يخشى أن يكون قد سلّم وعيه لاختزال خطير. إن إلقاء التهم دون كشف وجوههاوتفاصيلها، ودون تقديم قرائنها، يجعل من كل قرار فعلاً مُعتمًا، يفتقر إلى ما يمنحه الشرعية وهو النور او ما يصطلح عليه بالشفافية.

قد يكون هذا الصدام مفتعلًا، وقد يكون حقيقيًا، لكن العدل لا يُبنى على الظنون. من يقول إن الهجمات وُجهت بتخطيط خارجي، عليه أن يُظهر لا أن يلوّح. ومن يرى أن إيران مذنبة، فليقدم ادلته الى محكمة، لا بمؤتمر صحفي. ومن يُدافع، عليه أن لا يكتفي بالإنكار، بل أن يطلب المواجهة الصريحة، لا عبر الطرد والشتائم، بل في ساحات حيث الكلمة الأولى للدليل.

فما أكثر اتهامات في هذا العالم، وما أقل ما ثبت منها. ومن يريد أن يعرف الحق، عليه أن لا يكتفي بما يُقال، بل بما يمكن البرهنة عليه. إذ لا العدالة تُبنى على الظن، ولا التاريخ يرحم من يظلم تحت غطاء الدبلوماسية. وفي صمت المشهد، ثمة شعور بأن ما نُسب إلى إيران ليس إلا سردية هشّة، تفتقر إلى ما يدعمها سوى الرغبة في الخصومة.

ومن يراقب مسار الحوادث يرى أن ثمة من يبحث عن كبش فداء. إن اتهام إيران قد لا يكون هدفه العدالة، بل التوازن في مشهد سياسي يميل كل يوم أكثر نحو طرف معين، وإن تم طمس الحقيقة تحت عناوين كبرى. والذين صمتوا حين استُهدفت دول أخرى، هم أنفسهم اليوم يُعلنون أن النار قادمة من طهران، وكأنهم لا يعرفون كيف تُصنع الحرائق بأكاذيب صغيرة.

الزمن لا يحكم فقط على الفعل، بل على دوافعه. وإن سُئلت الأيام عمّا جرى، ربما ستقول إن إيران لم تكن المُدانة، بل الغائب عن المحاكمة. وإن قيل إنها مذنبة، فليس هذا بديلاً عن المحاكمة، ولا الطرد يُقنع من لا يرى دليلاً. أما الذين صدّقوا لأنهم أرادوا التصديق، فهم في العادة أول من يكتشف أن الدخان وحده لا يصنع نارًا، وأن العداوة المعلنة قد تكون ستارًا لضعف في الحكمة أو في الأخلاق.

وهكذا يبقى السؤال، معلّقًا، بلا إجابة واضحة: هل ما حدث عدالة أم تمثيلية؟ وإذا كانت الثانية، فكم من سفراء سيُطردون قبل أن يُسأل السؤال الحقيقي: من المستفيد؟


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


جاسم محمدعلي المعموري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/08/27



كتابة تعليق لموضوع : استراليا تطرد سفير ايران .. من المستفيد؟!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net