النهضة الحسينية.. نموذج تنموي مستدام
طارق الغانمي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
طارق الغانمي

مثلت نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) امتدادًا طبيعيًا لخط الرسالة الإلهية التي أرسى دعائمها النبي الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي تجسدت في قوله الخالد: "حسين مني وأنا من حسين"، فهذا الحديث النبوي الشريف لا يعبر عن علاقة نسب فقط، في حين هو إقرار بوجود وحدة عضوية في المنهج والرسالة بين النبي وحفيده، وأن الشهادة كانت استكمالًا لجهود النبي محمد (ص) في تثبيت مبادئ الحق والعدل، وأن الثورة كانت ضرورة للحفاظ على روح الإسلام الحقيقية من الاندثار؛ لذلك جاءت تتويجًا لمسيرة النبوة والإمامة، وذروة في نضال الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم) ضد الظلم والفساد: "السلام عليك يا وارث الأنبياء".
كربلاء في حقيقتها منهج حياة متكامل، يمتد تأثيره ليشمل جميع جوانب الوجود الإنساني، بما في ذلك الجانب الاقتصادي والتنموي، ولو نظرنا بعمق إلى مبادئ هذه النهضة، سنجد أنها تحمل في جوهرها أسسًا راسخة يمكن أن تشكل نموذجًا للتنمية المستدامة القادرة على بناء مجتمعات قوية ومنتجة، وهو ما يميزها عن الثورات العابرة في طيلة الحوادث التاريخية التي المضت. لعل خروج الإمام الحسين (عليه السلام) لمواجهة شاملة مع انحرافات السلطة الأموية التي استولت على مقدرات الأمة، وحاولت تحويل الخلافة من نظام يقوم على الشورى والعدل إلى ملك قائم على الاستبداد والجبروت، وبهذا خرجت حركته (ع) من كرد فعل سياسي، إلى نهضة سياسية وفكرية وأخلاقية شاملة، راسماً بدمه الطاهر ملامح نموذج مثالي للإنسانية في أسمى صورها، مجسداً الإخلاص المطلق، والتفاني في الحق، والولاء للمبادئ السامية، والإيثار في سبيل إنقاذ الأمة من غياهب الظلم والفساد المستشري الذي كان يهدر ثروات الأمة ويخنق قدراتها، وهذا الرفض للفساد هو جوهر أي تنمية اقتصادية حقيقية، فالفساد هو السرطان الذي ينخر جسد الاقتصاد، ويولد البطالة والفقر، ويهدر الموارد البشرية والمادية.
تُعدّ المبادئ الحسينية منهج واضح للقضاء على الفساد وإعادة توزيع الثروات بشكل عادل، ممّا يمهد الطريق للخروج من الأزمات الاقتصادية وتحقيق التماسك الاجتماعي، وإن المجتمع الذي يستلهم من النهضة الحسينية لا يرى في القوة قيمة بحد ذاتها، بل يرى القوة الحقيقية في العدل والمساواة، وهذا العدل لا يقتصر على الجانب الاجتماعي فقط، وإنما يمتد ليشمل الجانب الاقتصادي أيضاً؛ وبالتالي عندما تتساوى الفرص وتُحارب الاحتكارات ويُقضى على المحسوبية، يصبح المجتمع قادرًا على تحفيز الإنتاجية والابتكار، مما يزيد من قدرته التنافسية.
في الواقع استطاعت النهضة الحسينية أن تكون نموذجًا حيًا لمجتمعات التي تسعى للعدل والإصلاح والإنتاج، وهي دعوة للعمل، ودعوة لاستغلال الموارد المتاحة بشكل أمثل، وليس هدرها على الفساد، وهذه المبادئ هي التي تُشكل جوهر التنمية المستدامة التي يحتاجها العالم المعاصر للخروج من أزماته الاقتصادية والاجتماعية، فهي رسالة مستمرة بأن الإصلاح يبدأ من الداخل، وأن القوة الحقيقية تكمن في قيم الحق والعدل والعمل من أجل بناء مجتمع حر كريم.
أما التكافل الاجتماعي الذي مثّله أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) كان نموذجًا فريدًا في التضحية والإيثار، إذ كانت الجهود الفردية تُوجَّه لخدمة الهدف الجماعي، وهذا ما يدفع نحو الرخاء طويل الأمد عن طريق تمكين جميع أفراد المجتمع من المشاركة في عجلة التنمية الاقتصادية؛ لكون الهدف الأعظم من واقعة الطف كان لإصلاح الأمة، والعمل على تغيير واقعها السيء إلى واقع أفضل، ورفض القيادات الفاسدة، وبناء مجتمع متماسك يعمل جميع أفراده للوصول لهدف واحد وهو الحياة الحرة الكريمة لكل فرد دون تهميش أو إقصاء أو تمييز. هذا المسعى للارتقاء بالإنسان إلى الرخاء والعمل والإنتاج بصورة مستدامة، والاستغلال الأمثل للموارد للوصول لمعدلات نمو تمكن المجتمع من تحقيق أهدافه المنشودة، هو ما يعكس الفهم الحقيقي للنهضة الحسينية. خاصة إن تأثير هذه النهضة يتجسد في قدرتها على غرس روح المسؤولية في الأفراد، مما يدفعهم نحو المشاركة الفاعلة في بناء مجتمعاتهم، عندما يُدرك الفرد أن دوره لا يقتصر على الجانب العبادي، بل يتعداه إلى الجانب الاجتماعي والاقتصادي، يصبح جزءًا لا يتجزأ من حل المشكلات، لا من أسبابها، وهذا الوعي هو ما يضمن استمرارية التنمية وشموليتها.
وهذا ما سارت عليه أغلب البلدان في انتشال أبنائها من الواقع السيء إلى أفضل حال، بتحقيق مبدأ التنمية المحلية الشاملة والتكافل الاجتماعي اللذان يحفزان الإنتاجية ويزيدان قدرة الدولة التنافسية، وتدفعان نحو الرخاء طويل الأمد عن طريق شمول المجتمع لأفراده وتمكينهم من المشاركة في تحقيق الرخاء الاقتصادي، والاستفادة منه في ذات الوقت لتحقيق الغايات المشتركة بالقضاء على الفساد والفاسدين.
إن استمرارية النهضة الحسينية يكمن في كونها ليست مقيدة بحدود زمانية أو مكانية، فمبادئها الإنسانية من عدالة، وكرامة، ورفض للظلم، هي مبادئ خالدة تتجدد مع كل عصر يواجه فيه الإنسان فسادًا أو استبدادًا.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat