صفحة الكاتب : محمد السمناوي

اغتيال الأنبياء والمرسلين: ظاهرة تاريخية وتحقيق موجز في استشهاد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
محمد السمناوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

مقدمة:

أولاً: بيان المسألة

إن مسألة اغتيال الأنبياء والمرسلين ليست مجرد حوادث فردية عابرة في صفحات التاريخ، بل هي ظاهرة منهجية تعكس عمق الصراع الأزلي بين الحق والباطل، والهدى والضلال. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الظاهرة بوضوح، حيث قال تعالى في سياق مخاطبة بني إسرائيل: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} (البقرة: 87). هذه الآية الكريمة لا تكتفي بالإخبار عن فعل القتل، بل تؤكد أنه كان خياراً متعمداً ومتكرراً لفريق من رسل الله. إن هذه الحقيقة تثير تساؤلات عميقة حول الأسباب والدوافع الكامنة وراء هذا السلوك الإجرامي، وأنماطه، ومدى استمراريته عبر العصور.

ثانياً: إشكالية البحث

إن هذه الإشكالية تزداد تعقيداً وعمقاً حينما نتناول سيرة خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). فبينما يذهب كثير من المؤرخين إلى أنه توفي بمرض عادي، هناك شواهد وأدلة تاريخية وروائية تشير إلى أنه استشهد مسموماً. هذا التباين يستدعي تحقيقاً دقيقاً وموسعاً للوصول إلى الحقيقة التي قد تكون غُيبت عن أذهان الكثيرين. إن هذا البحث لا يقتصر على كونه سرداً تاريخياً، بل هو محاولة لتوثيق حقيقة استشهاد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من مصادر معتبرة، ووضع هذه الحقيقة في سياقها التاريخي الأوسع.

ثالثاً: التساؤلات البحثية

انطلاقاً من الإشكالية المطروحة، يبرز البحث في عدة تساؤلات محورية:

1- ما هي أبرز حوادث اغتيال الأنبياء والمرسلين التي وثقها التاريخ؟

2- هل تعرض النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فعلاً لعدة محاولات قتل قبل وفاته؟

3- ما هي الأدلة والشواهد التي تؤيد نظرية استشهاده مسموماً؟

4- هل هناك إجماع بين علماء المسلمين، وخاصةً في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، على هذه المسألة؟

رابعاً: أهمية البحث وأهدافه

إن أهمية هذا البحث تكمن في كونه ليس مجرد سردٍ تاريخي، بل هو تحقيق علمي موجز يهدف إلى الكشف عن حقائق تاريخية غائبة، وتقديم رؤية متكاملة لمصير الأنبياء (عليهم السلام). كما أنه يساهم في إثراء المكتبة الإسلامية ببحث منهجي يجمع بين الأدلة القرآنية والروائية والتاريخية. أما أهدافه، فتتمثل في إثبات أن ظاهرة القتل والاغتيال للأنبياء ليست عابرة، والوصول إلى حقيقة استشهاد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتوثيق هذا الاستشهاد من مصادر معتبرة.

ويمكن تناول البحث من جانبين، وقد جاءت على النحو الآتي:

أولاً: ظاهرة اغتيال الأنبياء عبر التاريخ

لقد تعرض معظم أنبياء الله تعالى، على مر العصور، لعمليات اغتيال وتصفية جسدية من قبل المعارضين والجاحدين لرسالاتهم. إن هذه الظاهرة لم تكن حوادث فردية، بل يمكن القول إنها كانت جزءًا من مخطط ممنهج يتبناه أعداء الحق. بدءاً من أول جريمة قتل في التاريخ، حيث قتل قابيل أخاه الصالح هابيل، مروراً بسلسلة طويلة من الاغتيالات التي طالت الأنبياء والمصلحين في مختلف الحضارات الإنسانية.

إن هذه الظاهرة، أو "المنظمة القمعية" استمرت في عملها دون كلل أو ملل، متطورة في وسائلها مع تطور العقل البشري، من القتل المباشر إلى استخدام السموم والأسلحة المتطورة اليوم، وقد شهد التاريخ أمثلة عديدة على ذلك:

1. اغتيال النبي إبراهيم الخليل (عليه السلام): تعرض لمحاولات قتل في الحقبة الفاصلة بين الإمبراطورية السومرية والأكدية، حيث أُلقي في النار انتقاماً لدعوته التوحيدية، كما جاء في القرآن الكريم.

2. اغتيال اليهود للأنبياء: لقد كانت هذه الظاهرة متجذرة في تاريخ بني إسرائيل، حيث أشار القرآن الكريم إلى أنهم "يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ"، ويُذكر أنهم قتلوا أربعمائة نبي في يوم واحد، واستمروا في حياتهم وكأن شيئاً لم يحدث، مما يدل على عمق انحرافهم عن رسالات الأنبياء.

3. محاولات اغتيال نبي الله موسى ويوسف (عليهما السلام): تعرض النبي موسى لثلاث محاولات اغتيال من فرعون، بينما تعرض النبي يوسف لمحاولة قتل وتصفية من إخوته الذين ألقوه في البئر، وكلها محاولات تكشف عن عمق الحقد على النبوة.

4. مقتل النبيين زكريا ويحيى (عليهما السلام): استشهدا على يد الحاكم هيرودوس، وتذكر المصادر أن دم يحيى ظل يغلي حتى قام القائد البابلي نبوخذ نصر بقتل من كان سبباً في ذلك، وقد ذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق ما يؤيد هذه الرواية، حيث يروي الحادثة بالتفصيل. (ابن عساكر، تاريخ دمشق، ج 5، ص 860.

5. مقتل النبي إسماعيل بن حزقيل والنبي جرجيس (عليهما السلام): استشهد الأول وهو من الأنبياء المذكورين بصدق الوعد في القرآن، بينما قتل جرجيس أربع مرات وكان الله يعيده إلى الحياة.

6. استشهاد الأنبياء في كربلاء: يؤكد الإمام علي (عليه السلام) أن أرض كربلاء تضم رفات مئات الأنبياء والأوصياء والشهداء، كما جاء في كتاب الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي، هذا القول له دلالات عميقة، فهو يؤكد أن أرض كربلاء لم تكن مسرحاً لاستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وحده، بل كانت منذ القدم أرضاً للشهادة والصراع بين الحق والباطل. قطب الدين الراوندي، الخرائج والجرائح، الجزء 2، ص 850.

ثانياً: تحقيق في استشهاد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)

إن ما يطرحه هذا البحث هو سؤال محوري: هل استشهد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مسموماً؟ إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب استقصاءً للأدلة والشواهد، سواء كانت روايات تاريخية أو أقوالاً للعلماء.

لقد تعرض النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لعدة محاولات اغتيال فاشلة، حتى قبل بعثته. فمحاولات قتل أبيه عبد الله بن عبد المطلب، تشير إلى وجود مخطط إجرامي يستهدف النبوة منذ بدايتها، وهو ما يفسر وفاة عبد الله في ظروف غامضة وهو في ريعان شبابه، وقد ذكر الشيخ المجلسي في بحار الأنوار أن اليهود كانوا على علم بأن النبوة ستخرج من صلب عبد الله، فسعوا لقتله قبل زواجه. المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 15، ص 113.

ولكن الشاهد الأهم في هذا السياق هو ما ذهب إليه الكثير من المؤرخين والعلماء بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مات مسموماً، وهذا يتوافق مع الرواية التي نقلها الإمام الرضا (عليه السلام) بقوله:"ما منا إلا شهيد"، وقد ورد هذا الحديث في مصادر شيعية معتبرة كـبصائر الدرجات للصفار ومن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق، وكفاية الأثر للخزاز القمي. (الصفار، بصائر الدرجات، ص 503؛ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، الجزء 4، ص 417؛ الخزاز القمي، كفاية الأثر، ص 139. هذه الرواية تُعدّ إعلاناً صريحاً من الإمام بمسار أهل البيت (عليهم السلام) الذي ينتهي بالشهادة.

ومن العلماء الذين أيدوا هذه الحقيقة من مختلف المدارس الإسلامية:

1- ابن سعد في الطبقات الكبرى: حيث ذكر في سياق حديثه عن وفاة النبي: "ومات مسموماً وله ثلاث وستون سنة". (ابن سعد، الطبقات الكبرى، الجزء 2، ص 255.

2- الشيخ المفيد في المقنعة: حيث قال: "وقُبِض رسول الله بالمدينة مسموماً لليلتين بقيتا من صفر وهو ابن ثلاث وستين سنة" الشيخ المفيد، المقنعة، ص 458.

3- العلامة الحلي في منتهى المطلب.

4- الشيخ الطوسي في التهذيب.

5- الحاكم في المستدرك والبيهقي.

ويرى العلامة المجلسي في بحار الأنوار أن يكون السم الذي وُضع للنبي في خيبر هو السبب في مقتله. هذه النصوص، التي لم يتم التعليق عليها، تمثل أدلة قوية تؤكد أن نظرية استشهاد النبي ليست مجرد رأي فردي، بل هي حقيقة يؤيدها كبار العلماء.

أما الأدلة التي تشير إلى كيفية استشهاده، فتتمثل في روايات "اللد"، التي وردت في كتب الحديث كـصحيح البخاري وصحيح مسلم، والسيرة النبوية لابن كثير الدمشقي، ومسند أحمد بن حنبل. هذه الروايات تُشير إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أُجبر على شرب دواء في مرضه، وهو ما رفضه. البخاري، صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي ووفاته، حديث رقم 4458؛ ابن كثير، السيرة النبوية، الجزء 4، ص 449.

إن الأعراض التي ظهرت على النبي في لحظاته الأخيرة، من ارتفاع في درجة الحرارة وصداع شديد، تتوافق تماماً مع أعراض التسمم التي وصفتها كتب الطب القديمة، ككتب جالينوس وابن سينا. إن هذه الشواهد التاريخية والعلمية تُعزز من الاطمئنان إلى أن النبي قد استشهد مسموماً.

إن ما يزيد من تأكيد هذه الحقيقة هو وقوع حدثين خطيرين في أسبوع واحد: اغتيال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسم يوم الاثنين، واقتحام بيت ابنته الزهراء (عليها السلام) وحرق باب دارها يوم الأربعاء، مما يشي بوجود مخطط أوسع نطاقاً يهدف إلى تصفية النبوة جسدياً وفكرياً.

خامساً: الخاتمة والنتائج

في الختام، يتبين أن قضية استشهاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مسموماً ليست مجرد رواية، بل هي حقيقة تاريخية مدعومة بالشواهد والأدلة، وتتطلب مزيداً من البحث والتحقيق لإبرازها للعامة، وذلك تلبيةً لقوله تعالى: "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا". الإسراء: 81.

خلص هذا البحث إلى عدة نتائج رئيسية:

1. إن ظاهرة القتل والاغتيال للأنبياء والمرسلين هي ظاهرة تاريخية متكررة وممنهجة.

2. لقد تعرض النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لعدة محاولات اغتيال قبل وخلال بعثته.

3. أظهرت الأدلة التاريخية أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد استشهد مسموماً، وهو رأي يتبناه العديد من علماء ومؤرخي المسلمين من مختلف المدارس.

4. إن الأعراض التي ظهرت على النبي قبيل وفاته تتوافق مع آثار السموم، مما يعزز من صحة هذه الفرضية.

5. إن استشهاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن حدثاً منعزلاً، بل كان جزءاً من صراع شامل يهدف إلى القضاء على رسالته وأهل بيته.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد السمناوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/08/22


  أحدث مشاركات الكاتب :

    • زيد الشهيد (عليه السلام): دراسة تحليليّة موجزة في الشخصيّة والثورة والمآل  (المقالات)

    • رفع الحسين دمه دعاءً واستنصاراً: رواية شاهد عيان في تاريخ مدينة دمشق  (المقالات)

    • "عاشوراء: محطّةُ الوجدانِ التّائِبِ ومرتقى النّفسِ الزّكيّة" إعداد: محمد السمناوي  (المقالات)

    • تجليات الولاية والنصرة الإلهية في زيارة شهداء كربلاء: دراسة تحليليّة في ضوء رواية الإمام الصادق (عليه السلام)  (المقالات)

    • الوجاهةُ الحسينيةُ في ميزانِ الشرعِ والعرفِ: دراسةٌ تحليليةٌ لمفهومِ "الوَجِيهِ عندَ اللهِ" على ضوءِ الكتابِ والعترةِ "عليهم السلام"  (المقالات)



كتابة تعليق لموضوع : اغتيال الأنبياء والمرسلين: ظاهرة تاريخية وتحقيق موجز في استشهاد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net