بين التاريخ والفقه: دلالة السابع عشر من ربيع الأول في الموروث الحديثي الشيعي
محمد السمناوي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد السمناوي

تُعدّ مناسبة مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا ونبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، من أهم الأحداث التي لم تقتصر دلالاتها على البعد التاريخي فحسب، بل امتدت لتؤسس لركائز فقهية وأخلاقية عميقة في الوعي الإسلامي، وخاصة في الموروث الحديثي الشيعي. فالسابع عشر من شهر ربيع الأول ليس مجرد تاريخ، بل هو دلالة على عظمة هذه الشخصية المقدسة، التي ارتبطت ولادتها بوقائع كونية خارقة للعادة، استوجبت من أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم آلاف التحية السلام) وسيرتهم الشريفة، أحكاماً فقهية خاصة، تكريماً لهذا اليوم المبارك. وفي هذا المقال الموجز، سنعمل على تحليل هذه الدلالات، من خلال المزج بين الرواية التاريخية والحكم الفقهي، وبيان كيف أن كليهما يكمل الآخر في الموروث الشيعي.
إن السابع عشر من شهر ربيع الأول يمثل في الوجدان الشيعي موعداً تاريخياً فارقاً، تتشابك فيه دلالات التاريخ مع أحكام الفقه. فليست المسألة مجرد تذكير بحدث عظيم، بل هي استنباط لأحكام شرعية من وقائعه وآياته. ففي حين اتفق عامة المؤرخين على أن ولادته الشريفة كانت في عام الفيل، فإن الروايات الشيعية قد خصّت يوم الجمعة السابع عشر من ربيع الأول بأنه اليوم المبارك لمولده. وهذا التحديد الدقيق، وإن كان يختلف عن المشهور عند بعض المذاهب، إلا أنه يُعدّ ركيزة أساسية في الموروث الحديثي الشيعي.
ومن الناحية الفقهية، لم تقتصر دلالة هذا اليوم على قيمته التاريخية، بل امتدت لتشمل أحكاماً شرعية، أبرزها استحباب صيامه. وقد وردت في ذلك روايات متعددة، منها ما رواه أبو الفتح الكراجكي في "كنز الفوائد"، وما جاء في "مصباح" الشيخ الطوسي، و"روضة الواعظين" لمحمد بن علي الفتال الفارسي. هذه النصوص، رغم اختلافها في جزئيات الفضل المترتب على الصيام، فإنها تتفق على أن صيام هذا اليوم مستحب، وأن له ثواباً عظيماً. وقد أشار الشيخ المفيد في "حدائق الرياض وزهرة المرتاض" إلى أن الصالحين من آل محمد (عليهم السلام) قد دأبوا على تعظيمه ورعاية حرمته.
وتأسيساً على ما سبق، يبرز التداخل العميق بين الحدث التاريخي والحكم الفقهي. فالموروث الحديثي الشيعي لم يكتف بسرد معجزات الميلاد، كـ ارتجاج إيوان كسرى، أو خروج النور، أو رؤيا اليهودي يوسف التي رواها علي بن إبراهيم، بل استثمر هذه الوقائع في بناء منظومة فقهية وعقائدية متكاملة. ولذا، فإن الاحتفاء بهذا اليوم هو فعل يجمع بين إحياء السيرة العطرة وتطبيق الأحكام الشرعية، وهو ما يؤكد أن التاريخ ليس مجرد حكاية، بل هو مصدر للأحكام ودلالة على عظمة الشخصية المحتفى بها، ويمكن تناول كلا الناحيتين التاريخية والفقهية، وذلك من خلال المبحثين التاليين:
المبحث الأول: الروايات التاريخية في تحديد يوم المولد الشريف
اتفق عامة كتّاب السيرة على أن ولادة النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت في عام الفيل، سنة 570 ميلادية، وفي شهر ربيع الأول. لكنهم اختلفوا في تحديد يوم المولد، فبينما يذهب المشهور بين أهل السنة إلى أنه ولد في يوم الاثنين، الثاني عشر من هذا الشهر، فإن محدّثي الشيعة قد اتفقوا على أنه كان يوم الجمعة، السابع عشر من ربيع الأول، بعد طلوع الفجر. هذا الاختلاف ليس مجرد تباين في التواريخ، بل هو مرتبط بمنهج كل فريق في الاعتماد على الروايات.
لقد أكدت مصادر علم الحديث والسيرة والتاريخ وقوع حوادث عجيبة في يوم ولادته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك لتلفت أنظار الناس إلى أهمية هذه الشخصية وضرورة التهيؤ لاستقبالها. ومن هذه الحوادث:
1- "ارتجاج إيوان كسرى، وسقوط أربع عشرة شرفه منه، وانخماد نار فارس التي كانت تُعبد، وجفاف بحيرة ساوة، وتساقط الأصنام المنصوبة على الكعبة على وجوهها، وخروج نور معه (صلى الله عليه وآله) أضاء مساحة واسعة من الجزيرة، والرؤيا المخيفة التي رآها أنوشيروان ومؤيدوه".(1)
2- رواية اليهودي يوسف: "كان بمكّة يهودي يقال له يوسف، فلمّا رأى النجوم تُقذف وتتحرّك ليلة ولد النبي (صلى الله عليه وآله) قال: هذا نبي قد ولد في هذه الليلة؛ لأنّا نجد في كتبنا إنّه إذا ولد آخر الأنبياء رُجمت الشياطين وحُجبوا عن السماء. فلمّا أصبح جاء إلى نادي قريش فقال: هل وُلد فيكم الليلة مولود؟ قالوا: قد ولد لعبد الله بن عبد المطّلب ابن في هذه الليلة، قال: فاعرضوه عليّ. فمشوا إلى باب آمنة، فقالوا لها: أخرجي ابنك، فأخرجته في قماطه، فنظر في عينه وكشف عن كتفيه، فرأى شامة سوداء وعليها شعيرات، فلمّا نظر إليه اليهودي وقع إلى الأرض مغشياً عليه، فتعجّبت منه قريش وضحكوا منه. فقال: أتضحكون يا معشر قريش؟ هذا نبي السيف، ليبرينكم، وذهبت النبوّة عن بني إسرائيل إلى آخر الأبد. وتفرّق الناس يتحدّثون بخبر اليهودي". (2)
هذه الحوادث، كما يذكرها المؤرخون، هي دلائل إعجازية على عظم هذا الميلاد، وضرورة التفات البشرية إلى هذه الولادة التي تمثل بداية عصر جديد في تاريخ الإنسانية.
المبحث الثاني: الجانب الفقهي ودلالة استحباب صوم اليوم المبارك
لم تقتصر دلالة هذا اليوم على البعد التاريخي، بل انعكست على الأحكام الشرعية، حيث ورد في الموروث الحديثي الشيعي ما يدل على استحباب صوم هذا اليوم الشريف، وهو ما يؤكد أن الاحتفاء ليس مجرد ذكرى، بل هو فعل تعبّدي يتقرب به العبد إلى الله. وقد وردت عدة روايات في هذا الصدد، منها:
1- ما رواه أبو الفتح الكراجكي في "كنز الفوائد": "ولد النبي (صلى الله عليه وآله) يوم الجمعة عند طلوع الفجر في اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأول روى ان من صامه كتب له صيام سنة".
2- ما جاء في "مصباح" الشيخ الطوسي: "وروي عنهم (عليهم السلام) انهم قالوا من صام يوم السابع عشر من ربيع الأول كتب الله له صيام سنة". (3)
3- ما رواه محمد بن علي الفتال في "روضة الواعظين": "روى ان يوم السابع عشر من ربيع الأول هو يوم مولد النبي (صلى الله عليه وآله) فمن صامه كتب الله له صيام ستين سنة".
4- ما ذكره الشيخ المفيد في "مسار الشيعة": " وفي السابع عشر منه مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله عند طلوع الفجر من يوم الجمعة في عام الفيل، وهو يوم شريف، عظيم البركة، ولم يزل الصالحون من آل محمد عليهم السلام على قديم الأوقات يعظمونه ويعرفون حقه، ويرعون حرمته، ويتطوعون بصيامه. وروي عن أئمة الهدى عليهم السلام أنهم قالوا: من صام اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأول - وهو مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله - كتب الله سبحانه له صيام سنة، ويستحب فيه الصدقة والالمام بزيارة المشاهد، والتطوع بالخيرات وإدخال المسرة على أهل الإيمان .(4)
هذه النصوص، وإن اختلفت في مقدار الثواب، فإنها تتفق على أصل استحباب الصوم. وهذا الحكم الفقهي الإستحبابي يمثل تجسيداً عملياً لدلالة اليوم التاريخية، ويعكس نظرة الموروث الشيعي التي ترى في المناسبات الدينية فرصة للتقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة، وقد تكامل في ذلك الدليلين التاريخي والشرعي في التكريم والتعظيم.
إن دراسة السابع عشر من ربيع الأول في الموروث الحديثي الشيعي لا تنفصل عن الرؤية المتكاملة التي تجمع بين التاريخ والفقه. فالمعجزات الكونية التي رافقت الميلاد، والشهادات التاريخية التي وثقتها المصادر، لم تكن مجرد وقائع عابرة، بل كانت دليلاً على عظمة النبوة، وهي التي استلهم منها الفقهاء الحكم باستحباب الصوم والتعظيم. وهكذا، يتكامل الدليل التاريخي مع الدليل الشرعي في تعزيز دلالة هذا اليوم المبارك، وجعله ليس فقط ذكرى، بل عبادة.
الخاتمة
وفي الختام، يتضح جلياً أن دلالة السابع عشر من شهر ربيع الأول في الموروث الحديثي الشيعي لا تنحصر في كونه مجرد تاريخ لحدث عظيم، بل تتعداه إلى كونه منطلقاً لأحكام فقهية وأسساً للتقرب إلى الله تعالى. فالمعجزات الكونية والوقائع غير المألوفة التي رافقت ميلاد النبي (صلى الله عليه وآله) لم تكن وقائع عابرة، وإنما كانت بمثابة إشارات إلهية ودلائل دامغة على عظمة هذه الشخصية المقدسة، وهي التي استلهم منها فقهاء الشيعة الحكم باستحباب الصوم والتعظيم لهذا اليوم.
وهكذا، يتكامل الدليل التاريخي، المتمثل في صحة يوم المولد ووقائعه، مع الدليل الشرعي المستنبط من أقوال أهل البيت (عليهم السلام) وسيرتهم، ليشكلا معاً بنية متماسكة. هذه البنية تؤكد أن الاحتفاء بهذا اليوم هو فعل يجمع بين إحياء السيرة العطرة، وتطبيق الأحكام الشرعية، وهو ما يجعل من هذه المناسبة ليست مجرد ذكرى عاطفية، بل عبادة ذات أبعاد روحية وفقهية عميقة. وبذلك، يظل هذا اليوم شاهداً على أصالة المنهج الشيعي الذي يربط بين التاريخ والفقه في سبيل تكريم وتعظيم النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).
ويمكن استنباط عدة نتائج رئيسية لهذا البحث، وهي:
1- أظهر البحث أن الموروث الحديثي الشيعي يتبنى تحديدًا دقيقًا ليوم المولد النبوي الشريف، وهو يوم الجمعة، السابع عشر من شهر ربيع الأول، وذلك خلافًا للمشهور عند مذاهب أخرى. هذا التحديد ليس مجرد رواية تاريخية، بل هو أساس لورود الأحكام الشرعية المرتبطة بهذا اليوم.
2- خلص البحث إلى أن الحوادث الكونية الخارقة التي رافقت مولد النبي (صلى الله عليه وآله) - كارتجاج إيوان كسرى وانخماد نار فارس - لم تكن مصادفة، بل هي دلائل إعجازية أكدت عظمة هذه الشخصية النبوية، وأن هذه الحوادث هي التي استلهم منها الفقهاء الأحكام الفقهية.
3- من أهم النتائج التي تم استنباطها هي أن هناك أساساً فقهياً راسخاً، مدعوماً بروايات معتبرة في الموروث الشيعي، على استحباب صيام يوم السابع عشر من ربيع الأول، وأن هذا الصوم يحظى بفضل وثواب عظيم.
4- أكد البحث على وجود تكامل بين الجانبين التاريخي والفقهي، حيث لم يفصل المنهج الشيعي بين الحدث التاريخي للحياة النبوية والحكم الشرعي، بل جعل من التاريخ دليلاً ومنطلقاً لاستنباط الأحكام، مما يجعل من الاحتفاء بالمولد الشريف عبادة متكاملة.
5- أظهرت الدراسة أن ممارسة تعظيم هذا اليوم لم تكن حديثة، بل هي ممارسة قديمة ودائمة لدى الصالحين من آل محمد (عليهم السلام) على مر العصور، مما يؤكد أصالة هذه الشعيرة وشرعيتها.
المصادر والمراجع:
1. القمي، عباس، الأنوار البهية، ص32؛ ابن شهر آشوب، محمد بن علي. مناقب آل أبي طالب. ج1، ص 30.
2. الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج1، ص58؛ ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى.
3. الطوسي، محمد بن الحسن. مصباح المتهجد، ص733.
4. الكراجكي، أبو الفتح. كنز الفوائد؛ المفيد، مسار الشيعة، ص50؛ الفتال النيسابوري، محمد بن الحسن. روضة الواعظين؛ السيد ابن طاووس، علي بن موسى. إقبال الأعمال؛ الحلبي، علي بن برهان الدين. السيرة الحلبية. ج2؛ المجلسي، محمد باقر. بحار الأنوار. ج15، ص 248-331؛ الأمين، محسن. أعيان الشيعة. ج1، ص 218.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat