الهجرة الى اوربا بدون تاشيرة ايام الهجرة 2014
سعد محمد الكعبي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
سعد محمد الكعبي

أنا وصديقي على هامش الحدود نحمل على ظهورنا جغرافيا قديمة، وقلوبًا لا تتقن الترجمة. كنا نبحث عن وطن لا يخجل منّا، لا يسألنا عن الوثائق ولا عن اللهجة
كانت ألمانيا حينها تبدو كحلمٍ مرتب في رفوف الصور، بلدٌ يلبس القانون كما يلبس الناس معاطفهم في الشتاء، نظيفٌ حدّ الصمت، منظمٌ حدّ الاغتراب
دفعنا مال الهجرة كأننا نشتري مقعدًا في الحلم، لكن المقعد كان بلا ظهر، بلا سند، وكان الحلم ينزلق من جيوبنا كلما ابتسم موظف الحدود ابتسامةً لا تعني شيئًا
المال؟ نعم، صرفنا ما يكفي ليُنبت شجرة في أرضٍ لم تُمنحنا جذورًا. صرفنا على محامي لا يعرف أسمائنا، على مترجمٍ لا يفهم أرواحنا، على غرفٍ مفروشةٍ بالانتظار، على أوراقٍ نُعدّلها دون أن نُعدّل أنفسنا
لكنّ الألم الحقيقي لم يكن في اليورو. بل في تلك
اللحظات التي نفتح فيها النوافذ ولا نعرف أيّ هواء نحتاج، في الحفلات التي تُضحك الكل إلا نحن، في الرسائل التي لا نرسلها كي لا نقول للأهل ماشي الحال لأن الحال لا يمشي
صديقي قال لي: الهجرة مثل القهوة المرة تعتاد طعمها لكنها لا ترويك. فأجبته: بل مثل عطرٍ جميل لا يخصّك، فقط تمر به وتغادر
ثمّ صمتنا. وككل مرة، مشينا لا، زحفنا نحو
شارعٍ في برلين لا يحمل اسماً عربياً، لكنّنا كنا نسمّيه الفرصة.
نا وصديقي على عتبة الأمل المؤجل كنا ننتظر القطار الذي يعبر نحو ألمانيا، لا نحمل في حقائبنا سوى تعب، وخرائط مطوية من خيبات سابقة. الحدود ليست خطوطًا على الأرض، إنها أنفاس ثقيلة نُطلقها ونحن نُفكر: هل ستقبلنا الأرض الجديدة أم ستعيدنا كأخطاء مطبعية؟
صديقي كان يضحك بمرارة، يقول: الألمانيّة لا تفهم نكتتي، والبيروقراطية لا تفهم وجهي. وأنا كنت أكتب اسمي بخطٍ واضح على كل وثيقة، كأنني أُذكّرهم أنني موجود، حتى لو لم يروني
صرفنا المال كما يصرف الناس دعاءً على باب المسجد: على وسطاء سوريين لا يعرفوننا إلا كحقائب، على محامين يتحدثون عن قوانين لا تعرف الرحمة، على مراكز لجوء تسألنا عن قصصنا، لكن لا تنتظر الجواب فقط الأوراق
صديقي في ممرّات المجهول في ألمانيا، كنا نرتدي الاحترام كسترة نجاة. كل شيء يبدو مرتبًا: القطارات في وقتها، القوانين لا تتذبذب، والناس تبتسم لكن ليس لنا. كنا نعيش في شققٍ لا تعرف أرواحنا، نتحدث لغةً لا تفهم وجعنا، ونضحك على نكاتٍ بلا نكهة
الهجرة لم تكن قرارًا، بل انفعالًا كنا نهرب من شيء لم نسمّه، نحو شيء لم نعرفه. دفعنا المال، نعم، لكن دفعنا أكثر من ذلك: الانتظار الطويل في غرف التوطين، الأسئلة المكررة، والقصص التي نحكيها كل مرة كأننا نحفر قبرًا ونصفّه بالكلمات. كل بصمة كانت توقيعًا على جدار التعب، كل ورقة مرفوضة كانت صفعة بأدب
صديقي قال لي مرة: ألمانيا تحترمنا، لكنها لا تحبنا. فأجبته: وأوطاننا تحبنا، لكنها لا تحمينا.
كنا نذهب إلى المواعيد كالذين يحضرون جنازتهم، نعرف أن النتيجة مجهولة، لكننا نحضر بكل ما تبقّى من صبر
ولمّا جاءت لحظة القرار، عندما قررتُ أن أعود، لم يكن ذلك ضعفًا، بل كان رفضًا لأن أعيش في قصة لا أُكتَب فيها اسمي بحروفٍ كاملة. عدتُ كما يعود المسافر من نزهةٍ لم يضحك فيها، وأدركت أن العودة أيضًا هجرة، لكنها بدون تأشيرة… فقط ألمٌ مألوف
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat