تأملات في وفاء أصحاب الحسين(عليه السلام): مسلم بن عوسجة انموذجا
د . حميد حسون بجية
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . حميد حسون بجية

لم تشهد ثورة في تاريخ الانسانية قائدا يدعو أتباعَه وجنودَه للتخلي عنه والنجاة بأنفسهم سوى ثورة أبي الأحرار الحسين بن علي(عليه السلام).
كما أن الثورات والمعارك لم تشهد جنودا وأتباعا يدعوهم قائدهم مرتين للنأي بأنفسهم والالتحاق بأهاليهم وهو يضمن لهم المثوبة والرضوان الكبير من لدن الخالق (جل وعلا)، ثم يرفضون ذلك، ويأبون إلا أن يدافعوا عنه وعن مبادئه حتى الرمق، كما حدث في كربلاء الصمود والشهادة.
لقد كانت المعاذير متوفرة. وكانت الاغراءات من الجانب المناوئ باذخة. فمن جهة أن عدد من كان مع الحسين(عليه السلام) لا يقاس مع من كان على الجانب الآخر. وذلك يعني في الحسابات الحربية الدنيوية أن المعركة خاسرة لا محالة. وهذا أقوى المعاذير.
أما ما كان يقدمه الطرف الآخر من إغراءات فقد كان يسيل له اللعاب. وبالفعل انحاز نحو ذلك الطرف كثيرون مثل قائدهم عمر بن سعد الذي كان يُمنّي نفسه بإمارة الري.
ووُعد العباس بن علي(عليه السلام) بقيادة الجيش وسلامة أخوته لو أنه تخلى عن نصرة الحسين(عليه السلام). وكان رده صاعقا: "أأترك من خلقني الله لأجله؟"
وصدر كلام بذلك الوفاء من علي الأكبر(عليه السلام) ومن القاسم بن الحسن(عليه السلام). وقد جسدوه بالفعل على أرض كربلاء.
وتدفقت كلمات الامام الحسين (عليه السلام) لنافع بن هلال البجلي بالنصيحة بأن يتسلل في جنح الظلام بين التلال مصطحبا شخصا من بني هاشم للنجاة، وترك الامام يلقى مصيره لأن القوم لا يطلبون سواه، ولو ظفروا به لما طلبوا غيره.
ولقد عبّر الأنصار عما يجول بخواطرهم حول نصرتهم لإمامهم في مواقف كثيرة في ذلك اليوم الخالد. ولم يكن الحسين (عليه السلام) مجانبا للصواب، وحاشاه، عندما قال: "أما بعد، فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي".
وتوالت الوعود بالوفاء والشهادة دون الامام الحسين(عليه السلام) من حبيب بن مظاهر وزهير بن القين وعابس بن شبيب الشاكري(رضوان الله عليهم) وغيرهم مما يطول ذكره.
وهذا مسلم بن عوسجة(رضوان الله عليه) وهو يحتضر، يوصي الصحابي الجليل قائد الأنصار حبيب بن مظاهر(رضوان الله عليه) بالحسين ونصرة الحسين.
نبذة عن مسلم بن عوسجة الأسدي... الصحابي المجاهد
هو مسلم بن عوسجة بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة، أبو حجل الأسدي السعدي. كان رجلاً شريفاً كريماً عابداً متنسكاً.
كان مسلم بن عوسجة من أصحاب الرسول الكريم(صلى الله عليه واله) ومن أبطال العرب في صدر الاسلام. فقد شهد فتح أذربيجان وغيرَهُ من الفتوح، وكان من أصحاب الامام علي (عليه السلام)، ثم كان من اصحاب الامام الحسين(عليه السلام) إذ استُشهد في واقعة كربلاء يوم عاشوراء. وقد رد اسمه في زيارة الشهداء.
ولما أرسل ابن زياد جواسيسه، في القصة المعروفة، تمكن من معرفة وجود مسلم بن عقيل في بيت هاني بن عروة. ثم إنّ مسلم بن عقيل وهاني بن عروة استُشهدا، ولكن مسلم بن عوسجة اختفى مدة ثم فرَّ بأهله لنصرة الامام الحسين(عليه السلام) في كربلاء، واستشهد هناك.
مسلم بن عوسجة في واقعة كربلاء
حضر مسلم (رضوان الله عليه) مع زوجته وابنه في واقعة كربلاء. ويذكر المؤرخون أنّ ابنه خلفا خاض الحرب يوم عاشوراء إلى جنب أبيه واستشهد في تلك الواقعة.
ليلة عاشوراء
لما جنّ الليل يوم تاسوعاء، جمع الإمام الحسين (عليه السلام) أصحابه وقال: "هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرقوا في سواد هذا الليل وذروني، فهؤلاء القوم لا يريدون غيري".
قام مسلم بن عوسجة وقال: "نحن نخليك هكذا وننصرف عنك، وقد أحاط بك هذا العدو! لا والله لا يراني الله أبدا وأنا أفعل ذلك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولو لم يكن لي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ولم أفارقك أو أموت معك. والله لو علمتُ أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق ثم أحيا ثم أذرّى، يفعل ذلك بي ذلك سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وهي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا؟"
يوم العاشر من المحرم
حفر الامام الحسين(عليه السلام) وأصحابه خندقا لكيلا يأتيهم القوم من الخلف. ولما أقبل القوم يجولون حول بيوت الحسين، ورأوا ذلك الخندق والنار تشتعل فيه، نادى شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته: "يا حسين أتعجلت النار قبل يوم القيامة؟". فقال الحسين(عليه السلام): " من هذا؟ كأنّه شمر بن ذي الجوشن"؟ فقالوا له: نعم. فقال له: "يا ابن راعية المعزى، أنت أولى بها صليا".
أراد مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، فقال مسلم: "دعني أرميه، فإنه فاسق من عظماء الجبارين، وقد أمكن الله منه". فقال له الحسين : "لا ترمه، فإني أكره أن أبدأهم بقتال."
شهادته يوم الطف:
كان مسلم من أوائل أصحاب الحسين الذين استشهدوا يوم الطف. خرج مسلم بن عوسجة إلى ساحة القتال يوم عاشوراء، وهو يرتجز ويقول:
إن تسألوا عني فإني ذو لبد وإن بيتي في ذرى بني أسد
فمن بغاني حائد عن الرشد وكافر بدين جبـــــــار صمد
فقاتل قتالاً شديداً، وصبر على أهوال القتال، حتى سقط إلى الأرض وبه رمق. فمشى إليه الامام الحسين(عليه السلام)، وكان معه حبيب بن مظاهر الأسدي(رضوان الله عليه). فقال حبيب: "عزَّ عليَّ مصرعك يا مسلم، أَبشر بالجنّة"! فقال له مسلم قولاً ضعيفاً: بشّرك اللّه بخير. فقال حبيب: لولا أنّي أعلمُ أنّي في إثرك .... لأحببتُ أن توصي إليَّ بكلّ ما أهمّك حتّى أحفظك في كلّ ذلك بما أنت له أهل من الدين والقرابة. فقال له مسلم: "بلى، أوصيك بهذا رحمك اللّه! و أومأ بيديه إلى الحسين أنْ تموت دونه"! فقال حبيب: "لأنعمنك عيناً". ثم مات رضوان الله عليه. فقال له الحسين: "رحمك الله يا مسلم،﴿ فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً﴾.
ولما نادى نفرٌ من جيش عمر بن سعد معبرين عن فرحتهم بمقتل مسلم بن عوسجة، قال شبث بن ربعي لمن حوله: " ثكلتكم أمّهاتكم! إنّما تقتلون أنفسكم بأيديكم، و تذلّلون أنفسكم لغيركم، تفرحون أن يُقتل مثل مسلم بن عوسجة! أما والّذي أسلمت له، لربّ موقف له قد رأيته في المسلمين كريم! لقد رأيته يوم سَلَقِ أذربيجان قتل ستّة من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين، أفيقتل منكم مثله وتفرحون؟" وهذه لا شك شهادة بجهاد مسلم بن عوسجة ومكانته في الاسلام.
وشهادة أخرى على مكانة مسلم بن عوسجة (رضوان الله عليه)، ألا وهي ذكر المعصومين له في الزيارات. فقد وقع التسليم عليه في زيارتي الرجبية والناحية المقدسة، وفي الثانية جاء السلام عليه هكذا: "السلام على مسلم بن عوسجة الأسدي القائل للحسين وقد أذن له في الانصراف: أنحن نخلي عنك وبم نعتذر إلى الله من أداء حقك؟ لا والله حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولا أفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ثم لا أفارقك حتى أموت معك."
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat