صفحة الكاتب : محمد السمناوي

"عاشوراء: محطّةُ الوجدانِ التّائِبِ ومرتقى النّفسِ الزّكيّة" إعداد: محمد السمناوي
محمد السمناوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

المستخلص
     يُسلّط هذا البحث الموجز الضوء على عاشوراء كـمحطةٍ روحيةٍ متجدّدةٍ تتجاوز كونها ذكرى تاريخية مؤلمة، لتصبح منبعاً لفلسفة الندم والتوبة في الإسلام. بتحليل دلالات التوبة لغوياً وشرعياً، وكيف تتجلى في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) لتشمل كافة مراتب السائبين، يؤكد البحث أن عاشوراء تمثل دعوةً مستمرةً لتهذيب النفس وتطهيرها. إنها تُشكل مناسبةً فريدةً لـإحياء ثأر الله تعالى عبر ذبح قوى الانحراف في الذات، والارتقاء بالروح نحو مقام القرب الإلهي والولاء الحقيقي.
الكلمات المفتاحية: عاشوراء، التوبة، الندم، النفس الزكية، القرب الإلهي، أهل البيت.
Abstract
This research highlights Ashura as a renewed spiritual station that transcends being merely a painful historical remembrance, transforming into a wellspring for the philosophy of remorse and repentance in Islam. By analyzing the linguistic and jurisprudential connotations of repentance and how they manifest in the narrations of the Ahl al-Bayt (peace be upon them) to encompass all levels of sincere penitents, the study affirms that Ashura represents a continuous call for self-purification and refinement. It serves as a unique occasion to revive God's vengeance by suppressing the forces of deviation within oneself, and elevating the soul towards the station of divine proximity and true loyalty.
Keywords: Ashura, Repentance, Remorse, Pure Soul, Divine Proximity, Imam Hussain.

المقدمة 
أولاً: بيان الموضوع
    يتناول هذا البحث عاشوراء ليس بوصفها مجرد ذكرى تاريخية لفاجعةٍ أليمةٍ، بل كمحطّةٍ روحيةٍ عميقةٍ تُعيدُ تشكيلَ وجدانِ المؤمنِ وتُحوّلهُ إلى بوتقةٍ للتوبةِ والندمِ. يسعى هذا العملُ إلى استجلاءِ الأبعادِ الفلسفيةِ والتربويةِ لمفهومَي الندمِ والتوبةِ في سياقِ هذه الذكرى العظيمة، مستنداً إلى النصِّ القرآنيِّ والسنّةِ الشريفةِ، بخاصةٍ ما وردَ عن أهلِ البيتِ (عليهم السلام)، لِتبيانِ كيف تُصبحُ عاشوراءُ دافعاً أساسياً لتهذيبِ النفسِ وتطهيرِها والارتقاءِ بها نحو مدارجِ الكمالِ الإلهيِّ.
ثانياً: الإشكالية
     تتبلورُ الإشكاليةُ الرئيسةُ في كيفيةِ تجاوزِ عاشوراءَ لِكونِها مجرّدَ مناسبةٍ للحزنِ والبكاءِ، لِتُصبحَ مُحرّكاً عملياً وفعّالاً للتغييرِ الذاتيِّ والارتقاءِ الروحيِّ. فكيفَ تُسهمُ أجواءُ عاشوراءَ في تعميقِ مفهومِ التوبةِ وتجذيرِه في وجدانِ الفردِ؟ وما هي الآلياتُ التي تُقدّمها هذه الذكرى لِتحويلِ الندمِ إلى فعلٍ إيجابيٍّ يُفضي إلى تطهيرِ النفسِ والتقرّبِ من اللهِ تعالى؟ وكيف تُمكنُ الاستفادةُ من هذه الذكرى لتجديدِ العهدِ مع قيمِ الحقِّ والعدلِ التي ضحّى من أجلها الإمامُ الحسينُ (عليه السلام)؟
ثالثاً: أسئلة البحث
1.    ما هو المفهومُ الشاملُ للندمِ والتوبةِ في الفكرِ الإسلاميِّ، وكيفَ تتجلّى دلالاتهما في النصِّ القرآنيِّ والحديثيِّ؟
2.    كيف تُسهمُ أجواءُ عاشوراءَ في تحفيزِ الفردِ على التوبةِ والندمِ من الذنوبِ والانحرافاتِ؟
3.    ما هي العلاقةُ بينَ إحياءِ ذكرى عاشوراءَ وبينَ عمليةِ تهذيبِ النفسِ وتطهيرِها من "قوى الإفسادِ والانحرافِ"؟
4.    كيفَ تُشكّلُ التوبةُ والندمُ من خلالِ عاشوراءَ طريقاً لِـ"إحياءِ ثأرِ اللهِ تعالى" في الذاتِ المؤمنةِ؟
5.    ما هو الأثرُ العمليُّ لِعاشوراءَ في دفعِ المؤمنِ نحو الارتقاءِ الروحيِّ وبلوغِ مقامِ القربِ الإلهيِّ؟
رابعاً: أهمية البحث
     تَنبعُ أهميةُ هذا البحثِ من كونهِ يُسلطُ الضوءَ على الأبعادِ التربويةِ والأخلاقية لِعاشوراءَ، مخرجاً إياها من الإطارِ العاطفيِّ المحضِ إلى فضاءِ التغييرِ الذاتيِّ والالتزامِ الأخلاقيِّ. إنَّ فهمَ عاشوراءَ كمحطّةٍ للتوبةِ والارتقاءِ الروحيِّ يُعزّزُ من قاعلّيتها في بناءِ شخصيةِ المؤمنِ الواعيةِ، ويُسهمُ في تجديدِ الوعيِ الدينيِّ بضرورةِ التوبةِ الفوريةِ والمستمرةِ. كما أنهُ يُقدمُ منظوراً جديداً لِفلسفةِ هذه الذكرى، مؤكّداً على أنها ليستْ مجرّدَ حزنٍ، بل هي منهجٌ عمليٌّ لِتحقيقِ الكمالِ الإنسانيِّ.
خامساً: أهداف البحث
1.    تحليلُ مفهومَي الندمِ والتوبةِ ودلالاتهما اللغويةِ والشرعيةِ في سياقِ عاشوراءَ.
2.    تبيانُ الدورِ التحفيزيِّ لأجواءِ عاشوراءَ في دفعِ الفردِ إلى التوبةِ والإنابةِ إلى اللهِ تعالى.
3.    الكشفُ عن العلاقةِ الجدليةِ بينَ إحياءِ ذكرى عاشوراءَ وعمليةِ تطهيرِ النفسِ وتهذيبِها من الرذائلِ.
4.    توضيحُ كيفَ تُعدُّ التوبةُ في ظلِّ عاشوراءَ وسيلةً لإحياءِ القيمِ الإلهيةِ في الذاتِ المؤمنةِ.
5.    استخلاصُ الآثارِ الروحيةِ والمعنويةِ لِتفاعلِ المؤمنِ مع عاشوراءَ على الارتقاءِ بوجدانِهِ نحو القربِ الإلهيِّ.
سادساً: هيكلية البحث
       يتناول البحث مفهوم الندم والتوبة من منظور قرآني وحديثي، مُسلطاً الضوء على عاشوراء كمحفزٍ روحيٍّ لهذه العملية. يستعرض شرائط التوبة وشُموليتها، ليُبيّن كيف تُصبح ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) مدرسةً لتهذيب النفس ووسيلةً لـ"إحياء ثأر الله تعالى" في الذات المؤمنة، دافعةً نحو القرب الإلهي والارتقاء الروحي، وذلك وفق الأمور الآتية: 
أولاً: الندم والتوبة: بين الحسرة وعزيمة الإصلاح
  دعونا نبدأ من الأساس. ما هو الندم؟ هو ليس مجرد شعورٍ عابرٍ بالأسف على خطأٍ ارتكبناه. القرآن الكريم يُصوّره لنا بوضوحٍ تام. عندما يتحدث عن قابيل الذي قتل أخاه، يقول تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ (المائدة: 31). هنا الندم حالةٌ وجوديةٌ عميقةٌ من التحسّرِ الشديدِ على أمرٍ فاتَ، وبسببِ تغيّرِ الرأيِ فيه. تخيلوا معي، بعد فوات الأوان، وبعد أن يتبين لك حجم الجرم أو الخطأ، تنقلب الموازين في نفسك، وتتمنى لو أنك لم تفعل. هذا هو الندم الحقيقي.
     وكذلك قوله تعالى عن المستكبرين في الدنيا: ﴿قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾ (المؤمنون: 40). هذه الآية تُشير إلى ندمٍ آتٍ لا محالة، ندمُ الآخرةِ الذي لا ينفع، ولكنه يعكس حقيقة أن الندم هو ثمرة حتمية للانحراف عن الحق، ولكن الأمر لا يقف عند الندم فقط. فالندم، كما أشار النص، هو في أصله من "منادمةِ الحزنِ" له. الحزن هنا ليس مجرد كآبة، بل هو لوعةٌ في القلبِ وألمٌ نفسيٌّ عميقٌ يُحرّكُ الإنسانَ. هذا الألم هو الشرارة التي تُشعلُ فتيلَ التوبة.
إذاً، ما هي التوبة؟ إنها ليست مجرد كلمة أو اعتذار شفوي. النص يُبيّن لنا أن الاعتذار يأتي على ثلاثة أوجه:
1.    النفي: أن تقول: "لم أفعل". وهذا إنكارٌ لا يُصلح.
2.    التبرير: أن تقول: "فعلتُ لأجل كذا". وهذا محاولةٌ لتخفيف المسؤولية.
3.    الإقلاع: أن تقول: "فعلتُ وأسأتُ وقد أقلعتُ". وهذا هو جوهر التوبة.
     التوبة هي تركُ الذنبِ على أجملِ الوجوهِ؛ هي أن تقف أمام نفسك، تعترف بالخطأ، تُقلِع عنه، وتُقرّر عدم العودة إليه. إنها أبلغ وجوه الاعتذار، لأنها تتضمن إصلاح الذات قبل إصلاح العلاقة مع الآخر.
ثانياً: شرائط التوبة: طريق العودة الصادقة
     لكي تكون التوبة حقيقيةً ومقبولةً عند الله تعالى، فإنها ليست مجرد شعور عابر بالأسف، بل هي عمليةٌ متكاملةٌ تتطلب شروطاً واضحةً. الفقهاء والعلماء، مستنبطين من النصوص الشرعية، قد بيّنوا هذه الشروط التي متى اجتمعت، "كَمُلَت شرائط التوبة".
1.    تركُ الذنبِ لِقبحِه: وهذا هو الأساس. لا تتوب لأنك خائف من العقاب فحسب، بل لأنك أدركت أن هذا الذنب قبيحٌ في ذاته، يتعارض مع فطرتك السليمة، ويُنافي رضا الله تعالى. هذا الوعي الداخلي بقبح المعصية هو أولى خطوات التغيير.
2.    الندمُ على ما فرَطَ: هذا هو الجانب الشعوري العميق الذي تحدثنا عنه. أن تتحسر بصدقٍ على ما فات من أوقاتٍ ضاعت في المعصية، وعلى ما ارتكبته من أخطاء أبعدتك عن الكمال.
3.    العزيمةُ على تركِ المعاودةِ: وهذا هو الجانب الإرادي. أن تتخذ قراراً حازماً وثابتاً في قلبك ألا تعود إلى هذا الذنب مرة أخرى. ليست مجرد أمنية، بل قرارٌ قاطعٌ ينبع من الإيمان.
4.    تداركُ ما أمكنه أن يتداركهُ من الأعمالِ بالإعادةِ: وهذا هو الجانب العملي. إذا كانت المعصية تتعلق بحقوق الآخرين (كغيبةٍ، أو سرقةٍ، أو أذى)، فعليك أن تُصلحَ ما أفسدت، وتُعيدَ الحقوقَ إلى أصحابها، وتطلبَ المسامحةَ. وإذا كانت المعصية تتعلق بحق الله تعالى (كترك صلاة أو صيام)، فعليك قضاؤها إن أمكن، أو الاستغفار والتكفير إن لم يمكن القضاء، وعندما تجتمع هذه الأربع، تكون التوبة "كاملةً". وهذا يعني أن الله تعالى -بكرمه وفضله- يقبلها ويُحوّلُ سيئاتكم حسنات. إنها فرصةٌ عظيمةٌ لا يُمكنُ تفويتها.
ثالثاً: دعوةٌ إلهيةٌ شاملة: التوبة في كلِّ آنٍ وحالٍ
     القرآن الكريم لا يدع مجالاً للشك بأن التوبة ليست خاصة بفئة دون أخرى، بل هي دعوةٌ عامةٌ وشاملةٌ لجميع المؤمنين، على اختلاف مستوياتهم. يقول تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النور: 31). هذه الآية دعوةٌ جامعةٌ ومفتوحةٌ، تربط الفلاحَ في الدنيا والآخرة بالتوبةِ.
      وفي آية أخرى يعاتب الله تعالى الذين يترددون في التوبة، مُبيّناً سعة رحمته: ﴿أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلى اللَّهِ ويَستَغْفِرُونَهُ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (المائدة: 74). وكأن الله تعالى يقول: "لماذا لا تتوبون؟ لماذا تترددون وقد فتحت لكم باب المغفرة والرحمة؟". هذه الآيات تُبيّن أن باب التوبة مفتوحٌ على مصراعيه، وأن رحمة الله واسعة، وأنه يحب التوابين.
     ولفهم عمق وشمولية التوبة، نجد في كلمات الإمام الصادق (عليه السلام) -كما رواها المحدث المجلسي في البحار نقلاً عن مصباح الشريعة- هذا البيان البديع: "التوبةُ حبلُ اللهِ ومددُ عنايتهِ، ولابدَّ للعبدِ من مداومةِ التوبةِ على كلِّ حالٍ، وكلُّ فرقةٍ من العبادِ لهم توبةٌ، فتوبةُ الأنبياءِ من اضطرابِ السرِّ، وتوبةُ الأصفياءِ من التنفسِ، وتوبةُ الأولياءِ من تلوينِ الخطراتِ، وتوبةُ الخاصِّ من الاشتغالِ بغيرِ اللهِ، وتوبةُ العامِّ من الذنوبِ" (بحار الأنوار، ج 6، ص 31).
      تأملوا هذا الحديث العظيم! الإمام الصادق (عليه السلام) يُخبرنا أن التوبة هي "حبلُ اللهِ ومددُ عنايتهِ"، أي أنها الصلة الدائمة بين العبد وربه، وهي المدد الإلهي الذي لا ينقطع. وهي ليست للمذنبين فحسب، بل:
•    توبة الأنبياء: من أدق الأمور، كـ "اضطراب السر" أو لحظات قصور في التركيز الكامل على الله تعالى.
•    توبة الأصفياء: "من التنفس"، أي حتى من الأمور الطبيعية إذا شغلتهم لحظة عن ذكر الله الأعظم.
•    توبة الأولياء: "من تلوين الخطرات"، أي من أي خاطر قد يُلهيهم عن مقامهم الرفيع مع الله.
•    توبة الخاص: "من الاشتغال بغير الله تعالى"، وهذا يعني أن كل ما يشغل قلب المؤمن عن خالقه يُعدّ ذنباً يستدعي التوبة.
•    توبة العام: "من الذنوب"، وهي الذنوب التي نعرفها جميعاً، كالمعاصي الظاهرة والباطنة.
      هذا يوصلنا إلى حقيقةٍ مهمةٍ جداً: التوبة والندامة واجبةٌ في كلِّ وقتٍ، وما دام نفس الإنسان باقياً، فإن التوبة واجبةٌ "على نحو الفور لا على التراخي". ليس هناك موسمٌ خاصٌّ بها، بل كل لحظةٍ فرصةٌ لتجديد العهد مع الله تعالى. وهذا ما يُميّز المؤمن الواعي؛ هو يُدرك أن الحياةَ كلّها محطاتٌ متواليةٌ للانطلاقةِ نحو الصلاحِ والتخلّقِ بأخلاقِ اللهِ تعالى.
رابعاً: عاشوراء: نافذةُ التوبةِ الكبرى وصرخةُ الإصلاحِ الذاتيِّ
      هنا نصل إلى لبّ الموضوع، وبيت القصيد. بعد أن فهمنا عمق التوبة وشموليتها، كيف ترتبط هذه المفاهيم بذكرى عاشوراء؟
ذكرى عاشوراء ليست مجرد حكاية حزينة نذرف عليها الدموع ونطويها. إنها فاجعةٌ لا مثيل لها في تاريخ البشرية، ولكن ضمن أسرار تكرار إحيائها، تكمن حِكمٌ عظيمةٌ. هذه الأجواء من الحزن والبكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) - الذي ذُبح على مذبح العشق الإلهي - ليست هدفاً بحد ذاتها، بل هي محفّزٌ قويٌّ لليقظةِ الروحيةِ.
     تخيلوا معي، من خلال هذه الذكرى، نحن لا نُحيي حدثاً فقط، بل ننطلق لنأخذ "ثأرَ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام) الذي هو في الحقيقةِ ثأرُ اللهِ تعالى". وكيف نأخذ هذا الثأر في زماننا هذا؟ آلية الثأر هنا هي أن نقوم بـ "ذبحِ قوى الإفسادِ والانحرافِ" التي تسكن في ذواتنا، والتي تُبعدُ الفردَ عن الحقيقةِ التي خُلقَ من أجلها: ألا وهي المعرفةُ الإلهية.
      ان المؤمنُ الملتفتُ والمنتبهُ، تجدهُ في المناخِ العاشورائيِّ يُفكرُ ويُخططُ لـتهذيبِ نفسه وتأديبِها أكثر من بقية الأوقات. لِماذا؟ لأن روح التضحية والفداء التي سُفكت دماء الإمام الحسين (عليه السلام) من أجلها، وهي الشريعةُ المحمديةُ الأصيلة، تدعونا لارتداء "لباس التقوى والورع" والتعلق بها أكثر فأكثر.
     إن هذه الأجواء العاشورائية هي بمثابة ورشة عملٍ روحيةٍ مكثّفةٍ. إنها تدعو الفردَ إلى خالقه وإلى آخرته. على الفرد المؤمن أن يقوم بعملية "صقلِ تلك الروحِ وتطهيرِها من القاذوراتِ والأوساخِ الماديةِ". وعندما تحدث هذه العملية، يصبحُ الفردُ متلذذاً بـ"تذوقِ السننِ الإلهيةِ المقدسةِ". يشمُّ رائحةَ الولايةِ، ويُصبحُ قلبهُ مع الحقَّ ويطلبهُ في كلِّ مكانٍ.
      فلو عاد الحسينُ الإمامُ (عليه السلام) مرة أخرى وصرخَ تلك الصرخةَ الشهيرةَ: "أَلاَ تَرَوْنَ إِلَى الْحَقِّ لاَ يُعْمَلُ بِهِ، وَإِلَى الْبَاطِلِ لاَ يَتَنَاهَى عَنْهُ؛ لِيَرْغَبَ الْمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ اللَّهِ مُحِقّاً" (بحار الأنوار، ج 44، ص 381؛ واللهوف لابن طاووس، ص 48)، لكان المؤمنُ الحقيقيُّ يجيبُ: "لبيك يا حسينُ سلامُ اللهِ عليكَ أينما كنتَ في هذا الوجودِ"، ويكونُ وقوفُهُ موقفَ أصحابهِ الأوفياءِ في حملِ أرواحِهم ومعانيهم الساميةِ.
سابعاً: الخاتمة
       في الختام، إن عاشوراءَ حقاً هي "بابُ التوبةِ إلى اللهِ تعالى". ورد في المناجاة: "إلهي أنتَ الذي فتحتَ لعبادِكَ بابًا إلى عفوكَ سمّيتهُ التوبةَ فقلتَ توبوا إلى اللهِ نَصوحًا" (الصحيفة السجادية، مناجاة التائبين). فلنجعل من هذه الأيام، أيامَ تحوّلٍ حقيقيٍّ، ولنجدد فيها عهدنا مع الله ومع الحسين (عليه السلام)، تائبين نادمين، طالبين العفو والغفران، ساعين لِصقلِ نفوسنا، لِنكونَ من الذين يستحقون شفاعته ويكونوا في ركبه، ومن خلال هذا البحث الموجز الذي استعرضنا فيه أبعاد عاشوراء كـمحطةٍ روحيةٍ للتوبةِ والارتقاءِ بالنفسِ الزكيةِ، يمكننا استخلاص مجموعة من النتائج والتوصيات التي تعزز فهمنا لهذه الذكرى العظيمة وتُفَعّلُ دورها في حياتنا:
أولاً: النتائج المستخلصة
1.    أظهر البحث أن عاشوراء ليست مجرد ذكرى للحزن والبكاء، بل هي مدرسةٌ شاملةٌ للتربيةِ الروحيةِ والأخلاقيةِ، تُقدّمُ منهجاً عملياً لتحقيق الكمال الإنساني.
2.     بيّن البحثُ عمقَ مفهومَي الندمِ والتوبةِ في الفكرِ الإسلاميِّ، مستنداً إلى النصِّ القرآنيِّ والحديثيِّ، وأكدَ على أن التوبةَ ليستْ حكراً على عامةِ الناسِ، بل هي واجبةٌ في كلِّ حالٍ ومقامٍ، وتشملُ حتى أولي الألباب من الأنبياءِ والأصفياءِ والأولياءِ، كلٌّ بحسبِ مقامِهِ.
3.    كشف البحث عن الدورِ المحوريِّ لأجواءِ عاشوراءَ في تحفيزِ الوجدانِ نحو التوبةِ والإنابةِ، وتحويلِ الألمِ إلى دافعٍ لِصقلِ الروحِ وتطهيرِها من "قوى الإفسادِ والانحرافِ".
4.    وضحَ البحثُ أن "ثأرَ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام)" الذي هو "ثأرُ اللهِ"، لا يقتصرُ على الانتقامِ الظاهريِّ، بل يتجسّدُ في "ذبحِ قوى الإفسادِ والانحرافِ في الذاتِ"، والسعيِ الدائمِ نحو المعرفةِ الإلهيةِ والتعلقِ بالشريعةِ المحمديةِ الأصيلةِ.
5.    أشارت النتائجُ إلى أنَّ المناخَ العاشورائيَّ يُلهمُ المؤمنَ للتفكرِ في تهذيبِ النفسِ وتأديبِها، مما يجعلهُ يشتمُّ رائحةَ الولايةِ ويعشقُ الحقَّ، وهو ما يُعدُّ رُقياً حقيقياً نحو القربِ الإلهيِّ.
ثانياً: التوصيات
1.    يوصي البحث بأن تُركّزَ المنابرُ الحسينيةُ ووسائلُ الإعلامِ الدينيةُ على الأبعادِ التربويةِ والأخلاقيةِ لِعاشوراءَ، فكما تُخرجَ الخطابَ من الإطارِ العاطفيِّ المحضِ عليها كذلك إخراج فضاءِ التغييرِ الذاتيِّ والالتزامِ العمليِّ بالتوبةِ.
2.    دعوةٌ إلى المؤسساتِ الدينيةِ والأكاديميةِ لِتصميمِ برامجَ وورشِ عملٍ مُتخصّصةٍ خلالَ شهرِ محرمٍ، تستهدفُ الشبابَ بشكلٍ خاصٍّ، لِشرحِ مفهومِ التوبةِ الشاملِ وربطهِ بفلسفةِ عاشوراءَ، وكيفيةِ تطبيقِ ذلك في حياتهم المعاصرةِ.
3.    التأكيدُ الدائمُ على شرائطِ التوبةِ الأربعةِ (تركُ الذنبِ لقبحِه، الندمُ عليه، العزيمةُ على عدمِ العودةِ، وتداركُ ما فات) لِضمانِ أن تكونَ التوبةُ حقيقيةً ومُثمرةً.
4.    تشجيعُ المؤمنين والحسينيين وأصحاب المواكب والهيئات على اعتبارِ عاشوراءَ ليستْ مجردَ عشرةِ أيامٍ، بل منهجَ حياةٍ يوميٍّ، يدفعُهم إلى المراجعةِ المستمرةِ للذاتِ، والابتعادِ عن الانحرافاتِ، والسعيِ الدائمِ نحو القربِ الإلهيِّ أسوةً بالإمامِ الحسينِ (عليه السلام).
5.    الحثُّ على إجراءِ المزيدِ من الدراساتِ الأكاديميةِ التي تُعمّقُ فهمَ مفهومِ "إحياءِ ثأرِ اللهِ" في زمنِ الغيبةِ، وكيفَ يُمكنُ للمؤمنِ أن يكونَ جزءاً من هذا الإحياءِ من خلالِ إصلاحِ نفسهِ ومجتمعهِ.

المصادر:
1.    المائدة: 31.
2.    المؤمنون: 40.
3.    المفردات للراغب الأصفهاني، مادة ندم، ص 489.
4.    النور: 31.
5.    المائدة: 74.
6.    بحار الأنوار، ج 6، ص 31، نقلاً عن مصباح الشريعة.
7.    بحار الأنوار، ج 44، ص 381؛ واللهوف لابن طاووس، ص 48.
8.    الصحيفة السجادية، الإمام علي بن الحسين (عليه السلام)، مناجاة التائبين.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد السمناوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/07/04


  أحدث مشاركات الكاتب :

    • تجليات الولاية والنصرة الإلهية في زيارة شهداء كربلاء: دراسة تحليليّة في ضوء رواية الإمام الصادق (عليه السلام)  (المقالات)

    • الوجاهةُ الحسينيةُ في ميزانِ الشرعِ والعرفِ: دراسةٌ تحليليةٌ لمفهومِ "الوَجِيهِ عندَ اللهِ" على ضوءِ الكتابِ والعترةِ "عليهم السلام"  (المقالات)

    • تسنيم: شراب المقربين بين النص القرآني والوصف الحديثي  (المقالات)

    • الِاسْتْرَاتِيجِيَّةُ الدِّفَاعِيَّةُ الشَّامِلَةُ فِي الْفِكْرِ الْإِمَامِيِّ: قِرَاءَةٌ فِي الْأَبْعَادِ الْجِهَادِيَّةِ وَالتَّرْبَوِيَّةِ لِدُعَاءِ أَهْلِ الثُّغُورِ لِلْإِمَامِ السَّجَّادِ (عليه السلام) محمد السمناوي  (المقالات)

    • دِلَالَةُ الِاسْتِبْدَالِ الْإِلَهِيِّ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: قِرَاءَةٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ  (المقالات)



كتابة تعليق لموضوع : "عاشوراء: محطّةُ الوجدانِ التّائِبِ ومرتقى النّفسِ الزّكيّة" إعداد: محمد السمناوي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net