مع كل دورة انتخابية في العراق، تتسلل رائحة الخطاب الطائفي والمكوناتي لتهدد ما تبقى من النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية، هذه المرة، لم يعد هذا الخطاب مجرد تسريب أو زلة لسان عابرة، بل تحول إلى استراتيجية متعمدة يتبناها بعض المرشحين اللاهثين وراء كسب الأصوات بأسهل الطرق، إنهم يدركون أن إثارة النعرات العرقية أو المذهبية هي أضمن وسيلة لتأمين مقعد برلماني أو موقع سياسي، حتى لو كان ثمن هذا المقعد هو تفكيك مفهوم المواطنة وتعقيد مستقبل الدولة.
إن لجوء السياسي إلى هذه "الاستراتيجية السامة" ليس سوى دليل مباشر على إفلاسه الخدمي والسياسي، عندما يفشل المرشح في تقديم برنامج واقعي لحل أزمات الكهرباء والبطالة وتدهور البنية التحتية، وعندما لا يمتلك إجابة مقنعة عن هدر الأموال العامة، فإن ملاذه الوحيد يصبح إلى الخطر الطائفي الوهمي، هنا يُحول السياسي البوصلة من المساءلة عن الخدمات إلى التحشيد ضد "الآخر"، ويستبدل الوعي بالعواطف، محاولاً إيهام الناخب بأن بقاءه في السلطة هو الضمان الوحيد لأمن المكون الذي ينتمي إليه.
هذا الفوز السهل المبني على الكراهية له فواتير باهظة يدفعها العراق كله، ليس أقلها في عملية الحكم ذاتها، فالمرشح الذي فاز بخطاب طائفي لا يمكنه أن يتحول فجأة إلى ممثل للدولة، هو يدخل البرلمان ومعه أجندة مكونية ضيقة، وليس أجندة وطنية، وعليه، فإن فوزه يرسخ المحاصصة والتعطيل في جميع مفاصل الدولة، ويجعل تشكيل الحكومات والاتفاق على القرارات المصيرية عملية شد وجذب بين هوية مغلقة وأخرى مغلقة، النتيجة النهائية هي نظام سياسي عاجز عن خدمة المواطن، يستنزف وقته وطاقته في إدارة الخلافات الهوياتية بدلاً من التفرغ لبناء الدولة.
يصبح الأمر أكثر إثارة للغضب عندما نتذكر أن الخطاب الطائفي والمذهبي هو جريمة انتخابية صريحة في القوانين العراقية، يُفترض أن يعاقب عليها القانون بالاستبعاد أو الحبس، ومع ذلك، نرى مفوضية الانتخابات والقضاء تتشددان في تطبيق الغرامات والعقوبات على المخالفات الإعلانية البسيطة، بينما يتم التغاضي بشكل لافت عن النعرات التي تفتت المجتمع، هذا التراخي في تطبيق القانون على من يهددون السلم الأهلي يعطي ضوءاً أخضر لمزيد من الاستغلال، ويجعل الناخب يشعر بأن القوانين تقف في صف المتلاعبين بالهوية.
المسؤولية تقع اليوم على عاتق الناخب الواعي الذي يمثل الحصن الأخير للوحدة العراقية، يجب على المواطن أن يرفض وبشكل قاطع كل مرشح لا يتحدث عن الكهرباء والوظائف ومحاربة الفساد، يجب اعتبار الخطاب الطائفي والقومي مؤشر فشل واضح في البرنامج الانتخابي، وعلامة على أن هذا المرشح لا يستحق تمثيل أي مواطن، بغض النظر عن انتمائه، إن قوة العراق لا تكمن في انقسامه، بل في قدرته على تجاوز هوية المكون إلى رحابة هوية المواطنة والوطن.


التعليقات
لا توجد تعليقات على هذا المقال بعد. كن أول من يعلق!