صفحة الكاتب : محمد السمناوي

الِاسْتْرَاتِيجِيَّةُ الدِّفَاعِيَّةُ الشَّامِلَةُ فِي الْفِكْرِ الْإِمَامِيِّ: قِرَاءَةٌ فِي الْأَبْعَادِ الْجِهَادِيَّةِ وَالتَّرْبَوِيَّةِ لِدُعَاءِ أَهْلِ الثُّغُورِ لِلْإِمَامِ السَّجَّادِ (عليه السلام) محمد السمناوي
محمد السمناوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

المستخلص

      يتناول هذا البحث الاستراتيجية الدفاعية الشاملة ضمن الفكر الإمامي، من خلال قراءة معمقة لدعاء أهل الثغور للإمام السجاد (عليه السلام)، ويحلل البحث الأبعاد الجهادية المتكاملة التي يطرحها الدعاء لإعداد المجاهد ومواجهة العدو، إلى جانب أبعاده التربوية في بناء النفس وتقوية الروح، ويسلط الضوء على رؤية الإمام المعصوم (عليه السلام) لتحقيق الأمن الشامل وحماية الأمة عبر منظومة إلهية متكاملة.

الكلمات المفتاحية: الاستراتيجية الدفاعية الشاملة - الفكر الإمامي - الأبعاد الجهادية- الأبعاد التربوية - دعاء أهل الثغور - الإمام السجاد (عليه السلام).

Abstract
This research examines the concept of comprehensive defensive strategy within Imami thought through an in-depth analysis of Du'ā' Ahl al-Thughūr (The Supplication of the Frontier Defenders) by Imam al-Sajjād (peace be upon him). The study analyzes the integrated jihādī dimensions presented in the supplication, which prepare the mujāhid (spiritual warrior) to confront the enemy, alongside its educational dimensions in self-development and spiritual fortification. It highlights the infallible Imam's (peace be upon him) vision for achieving comprehensive security and safeguarding the ummah (community) through a divinely ordained, holistic system.

Keywords: Comprehensive Defensive Strategy – Imami Thought – Jihādī Dimensions – Educational Dimensions – Du'ā' Ahl al-Thughūr – Imam al-Sajjād (peace be upon him).

مُقَدِّمَةُ الْبَحْثِ

أولاً: بَيَانُ الْمَوْضُوعِ:

     تُعَدُّ أدعيةُ أهل البيت (عليهم السلام) بحراً زاخراً بالمعارف الإلهية والتربوية، لا يقتصرُ أثرُها على الجانب الروحاني فحسب، بل تمتدُ لتشملَ صياغةَ رؤىً استراتيجيةٍ متكاملةٍ للتعامل مع تحديات الحياة. وفي هذا السياق، يبرزُ "دعاءُ أهل الثغور" المروي عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) في الصحيفة السجادية، كوثيقة فريدة تكشفُ عن الِاسْتِرَاتِيجِيَّة الدِّفَاعِيَّة الشَّامِلَة فِي الْفِكْر الْإِمَامِيِّ. يتناول هذا البحث بالدراسة والتحليل الموجزة لهذا الدعاء المبارك، سعياً للكشف عن الأبعاد المتعددة التي يطرحها في حماية الأمة الإسلامية.

ثانياً: إِشْكَالِيَّةُ الْبَحْث:

     في ظل التحديات الأمنية المتزايدة التي تواجه الأمة الإسلامية اليوم، وفي ظل غياب الرؤى الاستراتيجية المتكاملة التي تجمع بين الجانب المادي والروحي، يبرز التساؤل حول مدى قدرة نصوصنا الدينية الأصيلة، كدعاء أهل الثغور، على تقديم نموذج دفاعي لا يقتصر على المواجهة العسكرية فحسب، بل يتجاوزها ليشمل بناء الإنسان وصياغة وعيه وتعزيز أمنه الشامل. فهل يمثل هذا الدعاء استراتيجيةً دفاعيةً متكاملةً تجاوزت زمانها، وهل يمكن استلهامُها لتطوير فهمنا المعاصر للأمن والجهاد؟

ثالثاً: تَسَاؤُلَاتُ الْبَحْث:

يسعى هذا البحث للإجابة عن التساؤلات الرئيسية التالية:

1-   ما هي الأبعاد الجهادية (العسكرية، اللوجستية، الأمنية، التكتيكية) التي يتضمنها "دعاء أهل الثغور" في صياغة استراتيجية دفاعية؟

2-   كيف يُسهم الدعاء في بناء وصياغة الشخصية التربوية والروحية للمجاهدين وحماة الثغور؟

3-   ما هو مفهوم "الأمن الإلهي" الذي يستلهمه الدعاء، وما هي آلياته وتجلياته في حماية الأمة؟

4-   كيف تعكس هذه الاستراتيجية الدفاعية الشاملة عمق وشمولية "الفكر الإمامي" في التعامل مع الأخطار؟

رابعاً: أَهَمِّيَّةُ الْبَحْث:

تكمن أهمية هذا البحث في عدة جوانب:

1-   يسهم في إثراء المكتبة الإسلامية بدراسة تحليلية معمقة لأحد كنوز الصحيفة السجادية، وكشف أبعاده الاستراتيجية غير المتناولة بكثرة.

2-   يقدم رؤية متكاملة يمكن أن تُلهم المخططين والقيادات في صياغة استراتيجيات دفاعية وأمنية تُراعي الجوانب المادية والروحية.

3-   يُبرز الدور المحوري للدعاء كأداة فعّالة في تربية الأفراد وصقل شخصياتهم، وتعزيز صمودهم وثباتهم في أوقات الشدائد.

4-   يسلط الضوء على الفكر الإمامي وقدرة الإمام المعصوم (عليه السلام) على تقديم حلول جذرية ورؤى استراتيجية عميقة للأمة في جميع الظروف.

خامساً: أَهْدَافُ الْبَحْث:

يهدف هذا البحث إلى تحقيق الأهداف الآتية:

1-   تحليل الأبعاد الجهادية المتضمنة في دعاء أهل الثغور والكشف عن عناصرها الاستراتيجية.

2-   استنباط الأسس التربوية والنفسية التي يهدف الدعاء لغرسها في نفوس المجاهدين وحماة الثغور.

3-   توضيح مفهوم "الأمن الإلهي" وآلياته المستوحاة من الدعاء في حماية الأمة الإسلامية.

4-   إبراز الشمولية والرؤية المتكاملة للفكر الإمامي في تدبير شؤون الأمة ومواجهة الأخطار.

5-   تقديم قراءة معاصرة لدعاء أهل الثغور تُسهم في تعزيز ثقافة الصمود والتحدي للأمة.

سادساً: هيكلية البحث:

     هيكلية البحث المتناولة في الدعاء لأهل الثغور تمحورت حول سبعة محاور رئيسية، حيث يبدأ المحور الأول بتحصين المرابطين إلهيًا ويؤكد على الإعداد الشامل لهم ماديًا ومعنويًا، وفي المحور الثاني يشدد على غرس البصيرة والوعي العميق لدى المجاهدين، وتجريدهم من التعلق بالدنيا، بينما جاء المحور الثالث ليتناول الدعاء بتدمير الأعداء تدميرًا شاملًا، يشمل تشتيتهم، إضعافهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم، ويسعى المحور الرابع لتمكين الإسلام عالميًا وتوحيد العبادة لله تعالى في كل بقاع الأرض، وجاء المحور الخامس ليكشف عن طلب إرباك الأعداء داخليًا بضرب بعضهم ببعض، وابتلائهم بالكوارث، ويقدم المحور السادس رؤية متكاملة للنصر كجهد جماعي بين المجاهدين، الداعمين، وأصحاب النوايا الصادقة، ويختتم المحور السابع الدعاء بالصلاة على النبي وآله، كجسر لقبول الدعاء وتأكيد على قدرة الله تعالى المطلقة، كما تمت الإشارة إلى أهمية قراءة هذا الدعاء في هذه المرحلة الحرجة حيث العدوان الصهيوني على الجمهورية الإسلامية، والحرب الظالمة على الإسلام والمسلمين المتمثل بشيعة آل محمد عليهم السلام، وقد جاءت على النحو الآتي:

أهمية قراءة دعاء لأهل الثغور في هذا الوقت

     إننا نعيش اليوم في مرحلة حرجة، حيث تكالبت الأمم على الإسلام، وتعاظمت التحديات، وامتد العدوان الصهيوني ليطال كرامة الأمة وعزتها، مستهدفاً الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي رفعت راية الإسلام الأصيل في هذا العصر. في هذا الظرف الدقيق، تصبح قراءة وتدبر "دعاء أهل الثغور" ضرورةً ملحةً لا ترفاً روحياً، وذلك للأسباب التالية:

1.     الدعاء يُرسخ في القلوب اليقين بالنصر الإلهي، ويُذكّر المجاهدين والداعمين بأنهم ليسوا وحدهم، وأن الله تبارك وتعالى معهم، مما يُعزز من صمودهم وثباتهم في وجه العدوان الذي لا يفرق بين طفل وامرأة، ولا يراعي حرمة.

2.     الدعاء يُقدم لنا منهاجاً عملياً للدفاع والجهاد، لا يقتصر على القوة العسكرية، بل يشمل الإعداد النفسي، الأخلاقي، اللوجستي، وحتى الحرب النفسية ضد العدو. وهذا يُعيننا على فهم أعمق لـ"الاستراتيجية الدفاعية الشاملة" التي يجب أن تتبناها الأمة الإسلامية.

3.     يكشف الدعاء عن حقيقة الصراع على أنه بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر، وأن الغاية القصوى هي إقامة التوحيد لله تبارك وتعالى في الأرض. هذا الفهم يرفع الصراع من مجرد نزاع على الأرض إلى معركة كبرى ذات أبعاد كونية.

4.     الدعاء يُبيّن أن النصر محصلة لجهود متكاملة بين المجاهدين في الجبهات، والداعمين في الخلف، وذوي النوايا الصادقة الذين حال بينهم وبين الجهاد مانع. وهذا يدعو إلى وحدة الصف وتنسيق الجهود في مواجهة العدو المشترك.

5.     في زمن تتزايد فيه الضغوط والتآمر، يُجدد الدعاء الثقة المطلقة في نصر الله تبارك وتعالى، ويُذكّر بسننه في هزيمة الظالمين وزوالهم، مما يُثبت القلوب ويُبعد عنها اليأس.

6.     الدعاء يُعلِّمنا كيف ندعو على العدو بتشتيت شمله، وقطع مدده، وإلقاء الرعب في قلبه، وهذا يعكس فهماً عميقاً لنقاط ضعف العدو وكيفية التعامل مع مكائده.

      إن قراءة هذا الدعاء وتدبره في هذه المرحلة الحساسة هو بمثابة التزود بالزاد الروحي والاستراتيجي، الذي يُبصّرنا بواقعنا، ويُقوّي عزائمنا، ويُوحّد صفوفنا، ويُمكننا من أداء دورنا في إقامة الحق والعدل في الأرض، تمهيداً لظهور مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، الذي سيُحقق هذه الرؤية الإمامية الشاملة على أرض الواقع.

متن دعاء لأهل الثغور

"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَحَصِّنْ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ بِعِزَّتِكَ، وَ أَيِّدْ حُمَاتَهَا بِقُوَّتِكَ، وَأَسْبِغْ عَطَايَاهُمْ مِنْ جِدَتِكَ .

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَ كَثِّرْ عِدَّتَهُمْ، وَاشْحَذْ أَسْلِحَتَهُمْ، وَاحْرُسْ حَوْزَتَهُمْ، وَامْنَعْ حَوْمَتَهُمْ، وَأَلِّفْ جَمْعَهُمْ، وَدَبِّرْ أَمْرَهُمْ، وَوَاتِرْ بَيْنَ مِيَرِهِمْ، وَتَوَحَّدْ بِكِفَايَةِ مُؤَنِهِمْ، وَاعْضُدْهُمْ بِالنَّصْرِ، وَأَعِنْهُمْ بِالصَّبْرِ، وَالْطُفْ لَهُمْ فِي الْمَكْرِ .

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَعَرِّفْهُمْ مَا يَجْهَلُونَ، وَعَلِّمْهُمْ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَبَصِّرْهُمْ مَا لَا يُبْصِرُونَ .

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأَنْسِهِمْ عِنْدَ لِقَائِهِمُ الْعَدُوَّ ذِكْرَ دُنْيَاهُمُ الْخَدَّاعَةِ الْغَرُورِ، وَامْحُ عَنْ قُلُوبِهِمْ خَطَرَاتِ الْمَالِ الْفَتُونِ، وَاجْعَلِ الْجَنَّةَ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَلَوِّحْ مِنْهَا لِأَبْصَارِهِمْ مَا أَعْدَدْتَ فِيهَا مِنْ مَسَاكِنِ الْخُلْدِ وَمَنَازِلِ الْكَرَامَةِ وَالْحُورِ الْحِسَانِ وَالْأَنْهَارِ الْمُطَّرِدَةِ بِأَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَشْجَارِ الْمُتَدَلِّيَةِ بِصُنُوفِ الثَّمَرِ حَتَّى لَا يَهُمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالْإِدْبَارِ، وَلَا يُحَدِّثَ نَفْسَهُ عَنْ قِرْنِهِ بِفِرَارٍ .

اللَّهُمَّ افْلُلْ بِذَلِكَ عَدُوَّهُمْ، وَاقْلِمْ عَنْهُمْ أَظْفَارَهُمْ، وَفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَسْلِحَتِهِمْ، وَاخْلَعْ وَثَائِقَ أَفْئِدَتِهِمْ، وَبَاعِدْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوِدَتِهِمْ، وَحَيِّرْهُمْ فِي سُبُلِهِمْ، وَضَلِّلْهُمْ عَنْ وَجْهِهِمْ، وَاقْطَعْ عَنْهُمُ الْمَدَدَ، وَانْقُصْ مِنْهُمُ الْعَدَدَ، وَامْلَأْ أَفْئِدَتَهُمُ الرُّعْبَ، وَاقْبِضْ أَيْدِيَهُمْ عَنِ الْبَسْطِ، وَاخْزِمْ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ النُّطْقِ، وَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ وَنَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ، وَاقْطَعْ بِخِزْيِهِمْ أَطْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ .

اللَّهُمَّ عَقِّمْ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ، وَيَبِّسْ أَصْلَابَ رِجَالِهِمْ، وَاقْطَعْ نَسْلَ دَوَابِّهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ، لَا تَأْذَنْ لِسَمَائِهِمْ فِي قَطْرٍ، وَلَا لِأَرْضِهِمْ فِي نَبَاتٍ.

اللَّهُمَّ وَقَوِّ بِذَلِكَ مِحَالَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَحَصِّنْ بِهِ دِيَارَهُمْ، وَثَمِّرْ بِهِ أَمْوَالَهُمْ، وَفَرِّغْهُمْ عَنْ مُحَارَبَتِهِمْ لِعِبَادَتِكَ، وَعَنْ مُنَابَذَتِهِمْ لِلْخَلْوَةِ بِكَ، حَتَّى لَا يُعْبَدَ فِي بِقَاعِ الْأَرْضِ غَيْرُكَ، وَلَا تُعَفَّرَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ جَبْهَةٌ دُونَكَ .

اللَّهُمَّ اغْزُ بِكُلِّ نَاحِيَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمْدِدْهُمْ بِمَلَائِكَةٍ مِنْ عِنْدِكَ مُرْدِفِينَ، حَتَّى يَكْشِفُوهُمْ إِلَى مُنْقَطَعِ التُّرَابِ قَتْلًا فِي أَرْضِكَ وَأَسْراً، أَوْ يُقِرُّوا بِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ .

اللَّهُمَّ وَاعْمُمْ بِذَلِكَ أَعْدَاءَكَ فِي أَقْطَارِ الْبِلَادِ مِنَ الْهِنْدِ وَالرُّومِ وَالتُّرْكِ وَالْخَزَرِ وَالْحَبَشِ وَالنُّوبَةِ وَالزَّنْجِ وَالسَّقَالِبَةِ وَالدَّيَالِمَةِ وَسَائِرِ أُمَمِ الشِّرْكِ، الَّذِينَ تَخْفَى أَسْمَاؤُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ، وَقَدْ أَحْصَيْتَهُمْ بِمَعْرِفَتِكَ، وَأَشْرَفْتَ عَلَيْهِمْ بِقُدْرَتِكَ .

اللَّهُمَّ اشْغَلِ الْمُشْرِكِينَ بِالْمُشْرِكِينَ عَنْ تَنَاوُلِ أَطْرَافِ الْمُسْلِمِينَ، وَخُذْهُمْ بِالنَّقْصِ عَنْ تَنَقُّصِهِمْ، وَثَبِّطْهُمْ بِالْفُرْقَةِ عَنِ الِاحْتِشَادِ عَلَيْهِمْ .

اللَّهُمَّ أَخْلِ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْأَمَنَةِ، وَأَبْدَانَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ، وَأَذْهِلْ قُلُوبَهُمْ عَنِ الِاحْتِيَالِ، وَأَوْهِنْ أَرْكَانَهُمْ عَنْ مُنَازَلَةِ الرِّجَالِ، وَجَبِّنْهُمْ عَنْ مُقَارَعَةِ الْأَبْطَالِ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ جُنْداً مِنْ مَلَائِكَتِكَ بِبَأْسٍ مِنْ بَأْسِكَ كَفِعْلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، تَقْطَعُ بِهِ دَابِرَهُمْ وَتَحْصُدُ بِهِ شَوْكَتَهُمْ، وَتُفَرِّقُ بِهِ عَدَدَهُمْ .

اللَّهُمَّ وَامْزُجْ مِيَاهَهُمْ بِالْوَبَاءِ، وَأَطْعِمَتَهُمْ بِالْأَدْوَاءِ، وَارْمِ بِلَادَهُمْ بِالْخُسُوفِ، وَأَلِحَّ عَلَيْهَا بِالْقُذُوفِ، وَافْرَعْهَا بِالْمُحُولِ، وَاجْعَلْ مِيَرَهُمْ فِي أَحَصِّ أَرْضِكَ وَأَبْعَدِهَا عَنْهُمْ، وَامْنَعْ حُصُونَهَا مِنْهُمْ، أَصِبْهُمْ بِالْجُوعِ الْمُقِيمِ وَالسُّقْمِ الْأَلِيمِ .

اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا غَازٍ غَزَاهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكَ، أَوْ مُجَاهِدٍ جَاهَدَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ سُنَّتِكَ لِيَكُونَ دِينُكَ الْأَعْلَى وَحِزْبُكَ الْأَقْوَى وَ حَظُّكَ الْأَوْفَى فَلَقِّهِ الْيُسْرَ، وَهَيِّئْ لَهُ الْأَمْرَ، وَتَوَلَّهُ بِالنُّجْحِ، وَتَخَيَّرْ لَهُ الْأَصْحَابَ، وَاسْتَقْوِ لَهُ الظَّهْرَ، وَأَسْبِغْ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ، وَمَتِّعْهُ بِالنَّشَاطِ، وَأَطْفِ عَنْهُ حَرَارَةَ الشَّوْقِ، وَأَجِرْهُ مِنْ غَمِّ الْوَحْشَةِ، وَأَنْسِهِ ذِكْرَ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ . وَأْثُرْ لَهُ حُسْنَ النِّيَّةِ، وَتَوَلَّهُ بِالْعَافِيَةِ، وَأَصْحِبْهُ السَّلَامَةَ، وَأَعْفِهِ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَلْهِمْهُ الْجُرْأَةَ، وَارْزُقْهُ الشِّدَّةَ، وَأَيِّدْهُ بِالنُّصْرَةِ، وَعَلِّمْهُ السِّيَرَ وَالسُّنَنَ، وَسَدِّدْهُ فِي الْحُكْمِ، وَاعْزِلْ عَنْهُ الرِّيَاءَ، وَخَلِّصْهُ مِنَ السُّمْعَةِ، وَاجْعَلْ فِكْرَهُ وَذِكْرَهُ وَظَعْنَهُ وَإِقَامَتَهُ، فِيكَ وَلَكَ.  فَإِذَا صَافَّ عَدُوَّكَ وَعَدُوَّهُ فَقَلِّلْهُمْ فِي عَيْنِهِ، وَصَغِّرْ شَأْنَهُمْ فِي قَلْبِهِ، وَأَدِلْ لَهُ مِنْهُمْ، وَلَا تُدِلْهُمْ مِنْهُ، فَإِنْ خَتَمْتَ لَهُ بِالسَّعَادَةِ، وَقَضَيْتَ لَهُ بِالشَّهَادَةِ فَبَعْدَ أَنْ يَجْتَاحَ عَدُوَّكَ بِالْقَتْلِ، وَبَعْدَ أَنْ يَجْهَدَ بِهِمُ الْأَسْرُ، وَبَعْدَ أَنْ تَأْمَنَ أَطْرَافُ الْمُسْلِمِينَ، وَبَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ عَدُوُّكَ مُدْبِرِينَ .

اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ خَلَفَ غَازِياً أَوْ مُرَابِطاً فِي دَارِهِ، أَوْ تَعَهَّدَ خَالِفِيهِ فِي غَيْبَتِهِ، أَوْ أَعَانَهُ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ أَمَدَّهُ بِعِتَادٍ، أَوْ شَحَذَهُ عَلَى جِهَادٍ، أَوْ أَتْبَعَهُ فِي وَجْهِهِ دَعْوَةً، أَوْ رَعَى لَهُ مِنْ وَرَائِهِ حُرْمَةً، فَآجِرْ لَهُ مِثْلَ أَجْرِهِ وَزْناً بِوَزْنٍ وَمِثْلًا بِمِثْلٍ، وَعَوِّضْهُ مِنْ فِعْلِهِ عِوَضاً حَاضِراً يَتَعَجَّلُ بِهِ نَفْعَ مَا قَدَّمَ وَسُرُورَ مَا أَتَى بِهِ، إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ بِهِ الْوَقْتُ إِلَى مَا أَجْرَيْتَ لَهُ مِنْ فَضْلِكَ، وَأَعْدَدْتَ لَهُ مِنْ كَرَامَتِكَ.

اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَهَمَّهُ أَمْرُ الْإِسْلَامِ، وَأَحْزَنَهُ تَحَزُّبُ أَهْلِ الشِّرْكِ عَلَيْهِمْ فَنَوَى غَزْواً، أَوْ هَمَّ بِجِهَادٍ فَقَعَدَ بِهِ ضَعْفٌ، أَوْ أَبْطَأَتْ بِهِ فَاقَةٌ، أَوْ أَخَّرَهُ عَنْهُ حَادِثٌ، أَوْ عَرَضَ لَهُ دُونَ إِرَادَتِهِ مَانِعٌ فَاكْتُبِ اسْمَهُ فِي الْعَابِدِينَ، وَأَوْجِبْ لَهُ ثَوَابَ الْمُجَاهِدِينَ، وَاجْعَلْهُ فِي نِظَامِ الشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ .

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ وَآلِ مُحَمَّدٍ، صَلَاةً عَالِيَةً عَلَى الصَّلَوَاتِ، مُشْرِفَةً فَوْقَ التَّحِيَّاتِ، صَلَاةً لَا يَنْتَهِي أَمَدُهَا، وَلَا يَنْقَطِعُ عَدَدُهَا كَأَتَمِّ مَا مَضَى مِنْ صَلَوَاتِكَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِكَ، إِنَّكَ الْمَنَّانُ الْحَمِيدُ الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الْفَعَّالُ لِمَا تُرِيدُ ".

    

المحور الأول: الركنُ المتينُ: التحصينُ الإلهيُّ والإعدادُ الشاملُ للمرابطين.

المقطع الأول: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَحَصِّنْ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ بِعِزَّتِكَ، وَأَيِّدْ حُمَاتَهَا بِقُوَّتِكَ، وَأَسْبِغْ عَطَايَاهُمْ مِنْ جِدَتِكَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَكَثِّرْ عِدَّتَهُمْ، وَاشْحَذْ أَسْلِحَتَهُمْ، وَاحْرُسْ حَوْزَتَهُمْ، وَامْنَعْ حَوْمَتَهُمْ، وَأَلِّفْ جَمْعَهُمْ، وَدَبِّرْ أَمْرَهُمْ، وَوَاتِرْ بَيْنَ مِيَرِهِمْ، وَتَوَحَّدْ بِكِفَايَةِ مُؤَنِهِمْ، وَاعْضُدْهُمْ بِالنَّصْرِ، وَأَعِنْهُمْ بِالصَّبْرِ، وَالْطُفْ لَهُمْ فِي الْمَكْرِ ".

      في هذا المقطع الافتتاحي، يُعلِّمنا الإمام السجاد (عليه السلام) أن النقطة المحورية في الدفاع عن الأمة تبدأ بالتوجه إلى مصدر القوة المطلقة، وهو الله سبحانه وتعالى. فليست التحصينات المادية وحدها كافية، بل لا بد من "تحصين الثغور بعزته" و"تأييد حماتها بقوته"، وهذا تأكيد على أن الأمن الحقيقي منوط بالعناية الإلهية. ثم ينتقل الدعاء إلى تفاصيل دقيقة في الإعداد المادي والمعنوي للمرابطين: "كثر عدتهم" (زيادة القوة البشرية)، "اشحذ أسلحتهم" (التفوق التقني والتسليحي)، "احرس حوزتهم" (حماية مناطقهم)، "ألف جمعهم" (وحدة الصف وانسجام القيادة والجند)، "دبر أمرهم" (حسن التخطيط والقيادة)، "اعضدهم بالنصر" (توفيق إلهي)، "أعنهم بالصبر" (ثبات نفسي)، و"الطف لهم في المكر" (الذكاء التكتيكي والمناورات الحربية).

      نحن اليوم، ونحن نشهدُ صمودَ الجمهورية الإسلامية في وجه أعتى قوى الاستكبار، نرى مصاديق هذا الدعاء ماثلةً أمام أعيننا. فمن جهة، لا بديل عن الاعتماد على القوة الإلهية والتوكل عليه، كما نشاهد في خطابات القادة الشيعة وعلى رأسهم المراجع والفقهاء في النجف الأشرف وقم المشرفة الذين يؤكدون على مدد الله تعالى، لا سيما سماحة المرجع الأعلى آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني "دام ظله الوارف" ومن جهة أخرى، نجدُ إيران قد عملت على "تكثير عدتها" ببناء جيش قوي وحرس ثوري صلب، و"شحذ أسلحتها" بتطوير الصناعات الدفاعية الذاتية لتصل إلى مراتب متقدمة عالمياً في الطائرات المسيرة والصواريخ الدقيقة، وهي بذلك تحمي "حوزتها" وتمنع "حومتها" أي اختراقها. كما أن "تأليف الجمع" ووحدة الصف بين فصائل المقاومة المختلفة هو سر قوتهم، بينما "اللطف لهم في المكر" يتجلى في القدرة على المناورات الذكية والمفاجئة التي تربك العدو الصهيوني، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال: 60). فالإعداد هنا ليس مادياً فحسب، بل يشمل كل ما يرهب العدو ويقوي الصف.

المحور الثاني: سلاحُ الوعي والروح: غرسُ البصيرةِ ونسيانُ الدنيا في ساحِ الوغى.

  المقطع الثاني:  "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَعَرِّفْهُمْ مَا يَجْهَلُونَ، وَعَلِّمْهُمْ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَبَصِّرْهُمْ مَا لَا يُبْصِرُونَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأَنْسِهِمْ عِنْدَ لِقَائِهِمُ الْعَدُوَّ ذِكْرَ دُنْيَاهُمُ الْخَدَّاعَةِ الْغَرُورِ، وَامْحُ عَنْ قُلُوبِهِمْ خَطَرَاتِ الْمَالِ الْفَتُونِ، وَاجْعَلِ الْجَنَّةَ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَلَوِّحْ مِنْهَا لِأَبْصَارِهِمْ مَا أَعْدَدْتَ فِيهَا مِنْ مَسَاكِنِ الْخُلْدِ وَمَنَازِلِ الْكَرَامَةِ وَالْحُورِ الْحِسَانِ وَالْأَنْهَارِ الْمُطَّرِدَةِ بِأَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَشْجَارِ الْمُتَدَلِّيَةِ بِصُنُوفِ الثَّمَرِ حَتَّى لَا يَهُمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالْإِدْبَارِ، وَلَا يُحَدِّثَ نَفْسَهُ عَنْ قِرْنِهِ بِفِرَارٍ ".

     لا يكفي الإعداد المادي، بل يشدد الإمام (عليه السلام) على أهمية البصيرة والوعي العميق. فـ"عرفهم ما يجهلون، وعلمهم ما لا يعلمون، وبصرهم ما لا يبصرون" دعاءٌ لتنوير العقول، وإدراك الحقائق الخفية، وفهم طبيعة الصراع، وهذا هو أساس العقيدة الراسخة التي لا تزعزعها الشبهات ولا تخدعها المظاهر. ثم ينتقل إلى التسليح الروحي الأعظم: "أنسهم عند لقائهم العدو ذكر دنياهم الخداعة الغرور، وامح عن قلوبهم خطرات المال الفتون، واجعل الجنة نصب أعينهم". هذه الفقرة تربي المجاهد على الزهد في الدنيا، والفرار من فتنة المال، وتجعل الهدف الأسمى هو نيل رضا الله تعالى والجنة، فمن كانت الجنة غايته، لا يعرف الإدبار ولا يفكر بالفرار.

      إن ما نراه من بسالة وشجاعة قل نظيرها لدى المقاومين في فلسطين المحتلة ولبنان واليمن وشيعة العراق، وما تقوم به من دور إعلامي في نصرة الجمهورية الإسلامية، وكذلك الصمود الأسطوري للشعب الإيراني رغم العقوبات والحصار، هو نتيجة لغرس هذه البصيرة والوعي. إنهم قوم لم تُنسِهم الدنيا فتونها، ولم تغرهم أموالها، بل جعلوا الآخرة والشهادة نصب أعينهم. ولعل من أبرز مصاديق هذا، إصرار قادة محور المقاومة على الاستمرار في جهادهم رغم التضحيات الجسام، لأنهم يدركون عاقبة أمرهم ويرون الجنة بأعين بصائرهم، قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب: 23). هؤلاء هم من نسوا الدنيا وجعلوا الجنة نصب أعينهم.

المحور الثالث: إضعافُ الكيان: إرادةُ التدميرِ الشاملِ للظالمينَ بأمرِ الله تعالى

المقطع الثالث:"اللَّهُمَّ افْلُلْ بِذَلِكَ عَدُوَّهُمْ، وَاقْلِمْ عَنْهُمْ أَظْفَارَهُمْ، وَفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَسْلِحَتِهِمْ، وَاخْلَعْ وَثَائِقَ أَفْئِدَتِهِمْ، وَبَاعِدْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوِدَتِهِمْ، وَحَيِّرْهُمْ فِي سُبُلِهِمْ، وَضَلِّلْهُمْ عَنْ وَجْهِهِمْ، وَاقْطَعْ عَنْهُمُ الْمَدَدَ، وَانْقُصْ مِنْهُمُ الْعَدَدَ، وَامْلَأْ أَفْئِدَتَهُمُ الرُّعْبَ، وَاقْبِضْ أَيْدِيَهُمْ عَنِ الْبَسْطِ، وَاخْزِمْ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ النُّطْقِ،  وَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ وَنَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ، وَاقْطَعْ بِخِزْيِهِمْ أَطْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ، اللَّهُمَّ عَقِّمْ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ، وَيَبِّسْ أَصْلَابَ رِجَالِهِمْ، وَاقْطَعْ نَسْلَ دَوَابِّهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ، لَا تَأْذَنْ لِسَمَائِهِمْ فِي قَطْرٍ، وَلَا لِأَرْضِهِمْ فِي نَبَاتٍ ".

      لا يكتفي الإمام (عليه السلام) بالدعاء للمسلمين، بل ينتقل إلى الدعاء على الأعداء بسلسلة متكاملة من طلبات الهزيمة والإضعاف الشامل. هذا الجزء يمثل "الحرب الإلهية" التي تهدف إلى "فلِّ" جمعهم (تشتيتهم)، و"قلم أظفارهم" (إضعاف قوتهم العدوانية)، و"تفريقهم عن أسلحتهم" (شل حركتهم العسكرية)، و"خلع وثائق أفئدتهم" (إلقاء الرعب في قلوبهم). الدعاء يطلب قطع الإمداد عنهم، وتقليل عددهم، وملء قلوبهم بالرعب، وكبح أيديهم عن الهجوم، وألسنتهم عن التكلم، وتشريدهم، ليكونوا عبرة لمن بعدهم. ويبلغ الدعاء ذروته بطلب "تعقيم أرحام نسائهم وتيبيس أصلاب رجالهم" وقطع نسلهم ودوابهم، ومنع القطر والنبات عن بلادهم، وهي كنايات بليغة عن الإبادة التامة والتدمير الشامل للوجود الظالم، وهذا ليس طلباً للانتقام الأعمى، بل هو تجسيد لإرادة الله المتعال في إزالة وقلع الفساد من الأرض، وحماية المستضعفين.

      ما نراه اليوم من ارتباك في صفوف العدو الصهيوني، وتشتت لقرارهم، وطلب العون والنصرة من الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، والمطبعين من الدول العربية، وما هذا التخوف الذي يسري في أوساطهم رغم تفوقهم العسكري الظاهر، هو مصداق لفقرات هذا الدعاء. فالصواريخ التي لا تُرى، والعمليات التي لا تُتوقع، والحرب النفسية الإعلامية التي تشنها المقاومة، تزرع الرعب في قلوب جنودهم ومستوطنيهم. ومحاولاتهم لقطع المدد (الحصار على غزة)، وانقاص العدد (عبر الإبادة)، كلها ممارسات ظالمة، لكن الدعاء يبين أن الله تعالى قادر على أن يجعل هذه الأمور تخدم نهايتهم. والحديث عن تيبس الأرحام ومنع القطر يشير إلى زوال وجودهم بالكامل، وهو ما وعد الله الحق المتعال به في القرآن العزيز، قال تعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ (آل عمران: 151). هذه الآية تؤكد على إلقاء الرعب في قلوب الأعداء كجزء من العقاب الإلهي، والأحاديث الكثيرة التي تتحدث عن زوال الظالمين، والإنتقام منهم، وقد جاء في الحديث الشريف كما في "كنز العمال" عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول الله عز وجل:" وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلوما فقدر أن ينصره فلم ينصره".

المحور الرابع: الغايةُ الكُبرى: التمكينُ العالميُّ للإسلامِ وتوحيدُ العبادةِ لله تعالى.

المقطع الرابع:"اللَّهُمَّ وَقَوِّ بِذَلِكَ مِحَالَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَحَصِّنْ بِهِ دِيَارَهُمْ، وَثَمِّرْ بِهِ أَمْوَالَهُمْ، وَفَرِّغْهُمْ عَنْ مُحَارَبَتِهِمْ لِعِبَادَتِكَ، وَعَنْ مُنَابَذَتِهِمْ لِلْخَلْوَةِ بِكَ، حَتَّى لَا يُعْبَدَ فِي بِقَاعِ الْأَرْضِ غَيْرُكَ، وَلَا تُعَفَّرَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ جَبْهَةٌ دُونَكَ، اللَّهُمَّ اغْزُ بِكُلِّ نَاحِيَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمْدِدْهُمْ بِمَلَائِكَةٍ مِنْ عِنْدِكَ مُرْدِفِينَ، حَتَّى يَكْشِفُوهُمْ إِلَى مُنْقَطَعِ التُّرَابِ قَتْلًا فِي أَرْضِكَ وَأَسْراً، أَوْ يُقِرُّوا بِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، اللَّهُمَّ وَاعْمُمْ بِذَلِكَ أَعْدَاءَكَ فِي أَقْطَارِ الْبِلَادِ مِنَ الْهِنْدِ وَالرُّومِ وَالتُّرْكِ وَالْخَزَرِ وَالْحَبَشِ وَالنُّوبَةِ وَالزَّنْجِ وَالسَّقَالِبَةِ وَالدَّيَالِمَةِ وَسَائِرِ أُمَمِ الشِّرْكِ، الَّذِينَ تَخْفَى أَسْمَاؤُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ، وَقَدْ أَحْصَيْتَهُمْ بِمَعْرِفَتِكَ، وَأَشْرَفْتَ عَلَيْهِمْ بِقُدْرَتِكَ".

     بعد الدعاء على الأعداء، ينتقل الإمام (عليه السلام) للدعاء بتمكين أهل الإسلام، "قوِّ بذلك محال أهل الإسلام" (أي قوتهم وحيلهم)، وتحصين ديارهم، وتثمير أموالهم، وهذا يؤكد على أن النصر ليس هدفاً بحد ذاته، بل وسيلة لتحقيق الأمن الشامل والرفاهية التي تسمح للمسلمين بالتفرغ لعبادة الله المتعال. والغاية الكبرى هي "حتى لا يُعبد في بقاع الأرض غيرك، ولا تُعفّر لأحد منهم جبهة دونك"، وهذا هو الهدف الأسمى للجهاد: إقامة التوحيد الخالص في الأرض. ثم يتسع الدعاء ليشمل "الغزو بكل ناحية من المسلمين على من بإزائهم من المشركين" وهذا يدل على عالمية الرسالة، وطلب مدد الملائكة، وتعميم النصر على أعداء الله الحق المتعال في "أقطار البلاد" من شتى الأمم، لا فرق بين عدو وآخر في ضرورة إزالة الشرك والطغيان.

      ان الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بمحور المقاومة الذي تقوده، تمثل اليوم مصداقاً لهذا التمكين الإلهي. فهدفها الأسمى ليس السلطة أو المال، بل "التفرغ لعبادتك" وتحقيق "لا يُعبد في بقاع الأرض غيرك". إنها تدعم حركات المقاومة في كل مكان لتُغزَى "بكل ناحية" قوى الاستكبار والشرك. فالصراع مع الكيان الصهيوني ليس صراعاً على أرض فحسب، بل هو صراع عقائدي لإزالة "جبهة تُعفّر لغير الله"، وإقامة التوحيد. وشاهدنا كيف أن المدد الإلهي يتجلى في ثبات هذه القوى أمام أعتى الجيوش، ولذا نقول بكل صدق وصراحة ويقين ان هذه المعركة هي معركة دينية، فقد أختار التوقيت في ليلة عيد الغدير الأغر حقداً منهم على أمير المؤمنين عليه السلام الذي قلع باب خيبر، وقتل أبطالهم، وقد قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33). هذا الوعد بإظهار الدين كله هو الغاية الكبرى.

المحور الخامس: الإرباكِ الإلهيِّ: ضربُ الأعداءِ ببعضهم وابتلاؤهم بالكوارث.

المقطع الخامس: "اللَّهُمَّ اشْغَلِ الْمُشْرِكِينَ بِالْمُشْرِكِينَ عَنْ تَنَاوُلِ أَطْرَافِ الْمُسْلِمِينَ، وَخُذْهُمْ بِالنَّقْصِ عَنْ تَنَقُّصِهِمْ، وَثَبِّطْهُمْ بِالْفُرْقَةِ عَنِ الِاحْتِشَادِ عَلَيْهِمْ، اللَّهُمَّ أَخْلِ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْأَمَنَةِ، وَأَبْدَانَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ، وَأَذْهِلْ قُلُوبَهُمْ عَنِ الِاحْتِيَالِ، وَأَوْهِنْ أَرْكَانَهُمْ عَنْ مُنَازَلَةِ الرِّجَالِ، وَجَبِّنْهُمْ عَنْ مُقَارَعَةِ الْأَبْطَالِ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ جُنْداً مِنْ مَلَائِكَتِكَ بِبَأْسٍ مِنْ بَأْسِكَ كَفِعْلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، تَقْطَعُ بِهِ دَابِرَهُمْ وَتَحْصُدُ بِهِ شَوْكَتَهُمْ، وَتُفَرِّقُ بِهِ عَدَدَهُمْ، اللَّهُمَّ وَامْزُجْ مِيَاهَهُمْ بِالْوَبَاءِ، وَأَطْعِمَتَهُمْ بِالْأَدْوَاءِ، وَارْمِ بِلَادَهُمْ بِالْخُسُوفِ، وَأَلِحَّ عَلَيْهَا بِالْقُذُوفِ، وَافْرَعْهَا بِالْمُحُولِ، وَاجْعَلْ مِيَرَهُمْ فِي أَحَصِّ أَرْضِكَ وَأَبْعَدِهَا عَنْهُمْ، وَامْنَعْ حُصُونَهَا مِنْهُمْ، أَصِبْهُمْ بِالْجُوعِ الْمُقِيمِ وَالسُّقْمِ الْأَلِيمِ ".

      في هذا المقطع، يكشف الإمام (عليه السلام) عن مستوى متقدم من الاستراتيجية الإلهية في التعامل مع الأعداء، وهي "اشغل المشركين بالمشركين عن تناول أطراف المسلمين"، وهذا درس عظيم في إدارة الصراع الدولي، حيث يُطلب من الله تعالى أن يُدير صراعات داخلية أو بينية بين الأعداء تمنعهم من التفرغ لمواجهة المسلمين. ثم يُطلب منهم أن يأخذهم الله تعالى بالنقص، ويثبطهم بالفرقة، ويُفرغ قلوبهم من الأمانة (الشعور بالأمن)، ويضعف أبدانهم، ويشغلهم عن الاحتياج (التفكير في الحيل والمخططات)، ويوهن أركانهم، ويجبنهم، ويرسل عليهم جنداً من الملائكة كما حدث في بدر لقطع دابرهم. الدعاء لا يكتفي بذلك، بل يطلب الوباء والطاعون والأمراض والجوع والقحط والكوارث الطبيعية على بلادهم.

     ما نشاهده اليوم من صراعات داخلية تعصف ببعض القوى العالمية، واضطرابات سياسية واقتصادية تشتتهم عن التركيز الكامل على محور المقاومة، هو مصداق لـ"اشغل المشركين بالمشركين". والكيان الصهيوني نفسه يعيش حالة من الانقسام الداخلي والضعف المتزايد، وهذا يجسد "خذهم بالنقص" و"ثبطهم بالفرقة". أما الكوارث الطبيعية والابتلاءات التي تُصيب أحياناً أعداء الإسلام، فهي تذكير بأن يد الله القوي تعمل بطرق لا تخطر على البشر، كما جاء في الآية الكريمة: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ (المدثر: 31).

     وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ (الأنعام: 42). هذه الآية تبين أن الابتلاءات هي إحدى طرق الله في التعامل مع الأمم، وجاء في شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٨ - الصفحة ١٠٥ عن الإمام علي (عليه السلام): "إذا أقبلت الدنيا على عبد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه." إشارة إلى ذهاب القوة والعقل عن العدو.

المحور السادس: معادلةُ النصرِ الإلهيِّ: التكاملُ بينَ المجاهدِ، الداعمِ، والناوي.

المقطع السادس: "اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا غَازٍ غَزَاهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكَ، أَوْ مُجَاهِدٍ جَاهَدَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ سُنَّتِكَ لِيَكُونَ دِينُكَ الْأَعْلَى وَحِزْبُكَ الْأَقْوَى وَحَظُّكَ الْأَوْفَى فَلَقِّهِ الْيُسْرَ، وَهَيِّئْ لَهُ الْأَمْرَ، وَتَوَلَّهُ بِالنُّجْحِ، وَتَخَيَّرْ لَهُ الْأَصْحَابَ، وَاسْتَقْوِ لَهُ الظَّهْرَ، وَأَسْبِغْ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ، وَمَتِّعْهُ بِالنَّشَاطِ، وَأَطْفِ عَنْهُ حَرَارَةَ الشَّوْقِ، وَأَجِرْهُ مِنْ غَمِّ الْوَحْشَةِ، وَأَنْسِهِ ذِكْرَ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ . وَأْثُرْ لَهُ حُسْنَ النِّيَّةِ، وَتَوَلَّهُ بِالْعَافِيَةِ، وَأَصْحِبْهُ السَّلَامَةَ، وَأَعْفِهِ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَلْهِمْهُ الْجُرْأَةَ، وَارْزُقْهُ الشِّدَّةَ، وَأَيِّدْهُ بِالنُّصْرَةِ، وَعَلِّمْهُ السِّيَرَ وَالسُّنَنَ، وَسَدِّدْهُ فِي الْحُكْمِ، وَاعْزِلْ عَنْهُ الرِّيَاءَ، وَخَلِّصْهُ مِنَ السُّمْعَةِ، وَاجْعَلْ فِكْرَهُ وَذِكْرَهُ وَظَعْنَهُ وَإِقَامَتَهُ، فِيكَ وَلَكَ  .  فَإِذَا صَافَّ عَدُوَّكَ وَعَدُوَّهُ فَقَلِّلْهُمْ فِي عَيْنِهِ، وَصَغِّرْ شَأْنَهُمْ فِي قَلْبِهِ، وَأَدِلْ لَهُ مِنْهُمْ، وَلَا تُدِلْهُمْ مِنْهُ، فَإِنْ خَتَمْتَ لَهُ بِالسَّعَادَةِ، وَقَضَيْتَ لَهُ بِالشَّهَادَةِ فَبَعْدَ أَنْ يَجْتَاحَ عَدُوَّكَ بِالْقَتْلِ، وَبَعْدَ أَنْ يَجْهَدَ بِهِمُ الْأَسْرُ، وَبَعْدَ أَنْ تَأْمَنَ أَطْرَافُ الْمُسْلِمِينَ، وَبَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ عَدُوُّكَ مُدْبِرِينَ، اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ خَلَفَ غَازِياً أَوْ مُرَابِطاً فِي دَارِهِ، أَوْ تَعَهَّدَ خَالِفِيهِ فِي غَيْبَتِهِ، أَوْ أَعَانَهُ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ أَمَدَّهُ بِعِتَادٍ، أَوْ شَحَذَهُ عَلَى جِهَادٍ، أَوْ أَتْبَعَهُ فِي وَجْهِهِ دَعْوَةً، أَوْ رَعَى لَهُ مِنْ وَرَائِهِ حُرْمَةً، فَآجِرْ لَهُ مِثْلَ أَجْرِهِ وَزْناً بِوَزْنٍ وَمِثْلًا بِمِثْلٍ، وَعَوِّضْهُ مِنْ فِعْلِهِ عِوَضاً حَاضِراً يَتَعَجَّلُ بِهِ نَفْعَ مَا قَدَّمَ وَسُرُورَ مَا أَتَى بِهِ، إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ بِهِ الْوَقْتُ إِلَى مَا أَجْرَيْتَ لَهُ مِنْ فَضْلِكَ، وَأَعْدَدْتَ لَهُ مِنْ كَرَامَتِكَ، اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَهَمَّهُ أَمْرُ الْإِسْلَامِ، وَأَحْزَنَهُ تَحَزُّبُ أَهْلِ الشِّرْكِ عَلَيْهِمْ فَنَوَى غَزْواً، أَوْ هَمَّ بِجِهَادٍ فَقَعَدَ بِهِ ضَعْفٌ، أَوْ أَبْطَأَتْ بِهِ فَاقَةٌ، أَوْ أَخَّرَهُ عَنْهُ حَادِثٌ، أَوْ عَرَضَ لَهُ دُونَ إِرَادَتِهِ مَانِعٌ فَاكْتُبِ اسْمَهُ فِي الْعَابِدِينَ، وَأَوْجِبْ لَهُ ثَوَابَ الْمُجَاهِدِينَ، وَاجْعَلْهُ فِي نِظَامِ الشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ".

     في هذا المقطع، يقدم الإمام (عليه السلام) صورة متكاملة للمجتمع الجهادي، مؤكداً أن النصر ليس مسؤولية المقاتل في الصف الأول وحده، بل هو جهد جماعي تشارك فيه الأمة بأسرها. يبدأ بالدعاء لكل "غازٍ" و"مجاهد" في سبيل الله تعالى، طالباً له التوفيق، وتخير الأصحاب، وإسباغ النفقة، والنشاط، وإزالة الوحشة، ونسيان الأهل، وسلامة النية، والعافية، والشجاعة، والنصرة، والعلم، والتسديد في الحكم، وترك الرياء والسمعة، وجعل كل تفكيره وذكره وحركته لله الحق. هذا تأكيد على أن المجاهد مشروع إلهي، وأن الله تبارك وتعالى يتولاه بكل جوانبه، ثم ينتقل الدعاء لبيان فضل من "خلف غازياً أو مرابطاً في داره" أو "أعانه بماله" أو "بشحذه على جهاد"، مؤكداً أن أجرهم يوازي أجر المجاهد، وهو ما يعزز فكرة "الجهاد الكفائي" وأهمية الدعم اللوجستي والمادي والتشجيعي. وهذا يبني مجتمعاً متماسكاً، كل فرد فيه مسؤول عن الآخر. وأخيراً، يتناول الدعاء من "أهمه أمر الإسلام" ونوى الجهاد لكن منعه الضعف أو الفاقة أو الحادث، فيطلب له أن يُكتب اسمه في العابدين وله ثواب المجاهدين، ويجعله في نظام الشهداء والصالحين. هذا يفتح باب الأجر والثواب للجميع، ويعزز من معنويات الأمة الإسلامية بأسرها.

     إن ما نشاهده اليوم في محور المقاومة، من تلاحم بين جبهات القتال والشعب الداعم، هو خير مصداق لهذا الدعاء. فالجمهورية الإسلامية الإيرانية لا تقتصر على تسليح المقاتلين فحسب، بل توفر لهم الدعم اللوجستي، والتدريب، والرعاية المعنوية. والدعم الشعبي الواسع في العراق واليمن ولبنان وفلسطين، سواء بالمال أو التشجيع أو حتى بالدعاء، هو تجسيد حي لمن "خلف غازياً" ونال أجره. وتضحيات الشعب الإيراني وتأييده المطلق للمقاومة رغم التحديات، والفقر والحاجة، وصعوبة المعيشة يُعد من أبرز تجليات هذا المفهوم. حتى أولئك الذين يتألمون لأمر الإسلام ولكن تعجز أجسادهم، لهم أجر المجاهدين بنواياهم الصادقة، وقد قال تعالى: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة: 91). هذه الآية تؤكد على أن النية الصادقة والعمل الطيب يُعوض عن العجز الجسدي.

     وجاء في باب: فضل تجهيز الغازي في سبيل الله وأجر من يعين على الجهاد جملة من الأخبار والروايات ذكرها السيد حسين البروجردي طاب ثراه في جامع أحاديث الشيعة، ويمكن تصنيفها موضوعياً عبر الآتي:

1. فضل استقبال الغزاة:

      القطب الراوندي في لب اللباب عن النبي صلى الله عليه وآله قال: "من قال لغازٍ مرحبا وأهلاً، حيّاه الله يوم القيامة، واستقبلته الملائكة بالترهيب والتسليم".  جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج ١٣ - الصفحة 225، (2) ك 245.

2. عظيم أجر من جهز غازياً أو أعانه:

     القطب الراوندي في لب اللباب عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: "من جهز غازياً بسلكٍ أو إبرةٍ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر".

      وقال صلى الله عليه وآله: "من أعان غازياً بدرهمٍ فله مثل أجر سبعين دراً من درر الجنة وياقوتها، ليست منها حبة إلا وهي أفضل من الدنيا". جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج ١٣ - الصفحة 245، (1) ك 245.

3. أحكام الجبان في الجهاد وفضل تجهيز غيره:

       القاضي نعمان في شرح الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: "من جَبُنَ من الجهاد فليجهز بالمال رجلاً يجاهد في سبيل الله، والمجاهد في سبيل الله إن جُهز بمال غيره فله فضل الجهاد، ولمن جهزه فضل النفقة في سبيل الله، وكلاهما فضل، والجود بالنفس أفضل في سبيل الله من الجود بالمال." جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج ١٣ - الصفحة 245، (2) ك 245.

       الجعفريات بإسناده عن علي عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "من حس (أحس - دعائم) من نفسه جبناً فلا يغزو." جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج ١٣ - الصفحة 245، (3) الجعفريات 78 - الدعائم 342 عن علي عليه السلام مثله.

      الجعفريات بإسناده عن علي عليه السلام أنه قال: "الجبان لا يحل له أن يغزو، لأن الجبان ينهزم سريعاً، ولكن ينظر ما كان يريد أن يغزو به فليجهز به غيره، فإن له مثلاً أجره في كل شيء، ولا ينقص من أجره شيء". جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج ١٣ - الصفحة 245، (4) الجعفريات 79 - الدعائم 342 بإسناده عن علي عليه السلام نحوه.

المحور السابع: صَلَاةٌ لَا يَنْتَهِي أَمَدُهَا: قِمَّةُ التَّوَسُّلِ وَعَظَمَةُ الفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ"

المقطع السابع: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ وَآلِ مُحَمَّدٍ، صَلَاةً عَالِيَةً عَلَى الصَّلَوَاتِ، مُشْرِفَةً فَوْقَ التَّحِيَّاتِ، صَلَاةً لَا يَنْتَهِي أَمَدُهَا، وَلَا يَنْقَطِعُ عَدَدُهَا كَأَتَمِّ مَا مَضَى مِنْ صَلَوَاتِكَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِكَ، إِنَّكَ الْمَنَّانُ الْحَمِيدُ الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الْفَعَّالُ لِمَا تُرِيدُ".

       بعد هذه الرحلة في فقه الدفاع والاستراتيجية الربانية التي كشف عنها "دعاء لأهل الثغور"، يأتي الإمام السجاد (عليه السلام) ليُنهي هذا الدعاء العظيم بتاجٍ من الصلوات على سيد الكائنات محمد وآله الطاهرين (عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم). وهذا المقطع الأخير ليس مجرد ختام، بل هو خلاصةٌ وركنٌ أساسٌ لضمان القبول وتمام الفضل:

     ويُختتم هذا الدعاء المبارك بالصلوات الجامعة المانعة على سيد الرسل وأهل بيته الأطهار (صلوات الله عليهم)، وذلك ليس عبثاً، بل هو مفتاحُ إجابةٍ وتتميمُ فضلٍ. فالصلوات على محمد وآل محمد هي جسرُ القبول لكل دعاء، وهي تعظيمٌ لمقامهم الرفيع الذي بهم يتصل العبد بخالقه. الإمام يطلب صلاةً "عالية على الصلوات، مشرفة فوق التحيات، لا ينتهي أمدها ولا ينقطع عددها"، وهذا يعكس إدراكاً عميقاً لمقامهم السامي، فهم الوسيلة العظمى لرضا الله سبحانه وتعالى وفيض رحمته. ثم يأتي بذكر أسماء الله الحسنى: "المنان الحميد المبدئ المعيد الفعال لما يريد"، ليختم الدعاء بالتوكل المطلق على الله تعالى الحق المتعال، فهو المانح للفضل، والمستحق للحمد، وبيده الأمر كله، يُبْدِئُ ويُعيد، ويفعل ما يشاء بلا معقب.

      في هذا الزمن الذي تكثر فيه التحديات، وتتألب قوى الكفر والاستكبار على أمة الإسلام، وتحديداً على محور المقاومة وجمهورية إيران الإسلامية التي تمثل قلب الإسلام المحمدي الأصيل، وتتبع المؤمنين المجاهدين وتصفيتهم عبر الطائرات المسيرة وغيرها من الأساليب الإغتيال الجبانة،  فإن الختام بهذا الدعاء الشريف ليس مجرد عادة، بل هو تأكيدٌ على أن النصر ليس مرهوناً بالعدة والعتاد فحسب، بل هو بالدرجة الأولى مرهونٌ بالصلة بالله تعالى عبر أهل بيته الأطهار (عليهم السلام). إنّ هذا الختام يُغرسُ اليقينَ في قلوب المؤمنين بأنّ الله، بما له من صفات العظمة والقدرة المطلقة، قادرٌ على تحقيق كل ما دعا به الإمام( عليه السلام)، من تحصين الثغور إلى إفلال الأعداء وتشتيتهم، وصولاً إلى إقامة التوحيد في الأرض. فليكن هذا الدعاء نوراً نهتدي به في معترك الصراع، ويقيناً يثبت أقدامنا حتى يتحقق الوعد الإلهي بالنصر والتمكين.

الخاتمة

     في الختام، يظهر هذا البحث أن دعاء أهل الثغور للإمام السجاد (عليه السلام) يقدم استراتيجية دفاعية إلهية شاملة. تتجاوز هذه الاستراتيجية الجوانب العسكرية إلى بناء الإنسان وتعميق وعيه الروحي والمادي لتحقيق الأمن الشامل للأمة. إنه بمثابة زاد روحي واستراتيجي يعزز اليقين بالنصر في مواجهة التحديات المعاصرة، ويُمكن الأمة من أداء دورها في إقامة الحق والعدل، ويتضمن البحث العديد من النتائج والتوصيات الدقيقة والمهمة، والتي يمكن استخلاصها كالتالي:

ثانياً: النتائج:

1.     يُظهر البحث أن دعاء أهل الثغور يقدم منهاجًا عمليًا للدفاع والجهاد يتجاوز القوة العسكرية، ليشمل الإعداد النفسي، والأخلاقي، واللوجستي، وحتى الحرب النفسية ضد العدو.

2.     الدعاء يُرسخ في القلوب اليقين بالنصر الإلهي، ويُذكر المجاهدين والداعمين بأنهم ليسوا وحدهم، مما يُعزز من صمودهم وثباتهم. كما يكشف عن حقيقة الصراع كونه بين الحق والباطل، ويرفع الصراع إلى معركة ذات أبعاد كونية، مما يعمق الوعي والبصيرة.

3.     النصر في هذا الدعاء يُعد محصلة لجهود متكاملة بين المجاهدين في الجبهات، والداعمين في الخلف، وذوي النوايا الصادقة الذين حالت بينهم وبين الجهاد موانع.

4.     يعلم الدعاء كيفية الدعاء على العدو بتشتيت شمله، وقطع مدده، وإلقاء الرعب في قلبه، مما يعكس فهمًا عميقًا لنقاط ضعف العدو وكيفية التعامل مع مكائده.

أولاً: التوصيات:

1.     يوصي البحث بضرورة قراءة دعاء أهل الثغور وتدبره في المرحلة الحساسة الراهنة، لكونه بمثابة زاد روحي واستراتيجي يُبصر الأمة بواقعها، ويقوي عزائمها، ويوحد صفوفها، ويمكّنها من أداء دورها في إقامة الحق والعدل.

2.     يبرز البحث أهمية أن يُلهم هذا الدعاء المخططين والقيادات في صياغة استراتيجيات دفاعية وأمنية شاملة تُراعي الجوانب المادية والروحية.

3.     يدعو الدعاء إلى وحدة الصف وتنسيق الجهود بين كافة أفراد الأمة ومكوناتها لمواجهة العدو المشترك، وهذا يمثل توصية عملية لتطبيق رؤية الدعاء الجهادية.

بالتأكيد، إليك ترتيب وتنظيم للمصادر والمراجع المذكورة، وهو الترتيب الأكاديمي المتبع عادةً، حيث يبدأ بالقرآن الكريم ثم الكتب الحديثية والأوليات، ثم التفاسير والشروح، ثم الموسوعات أو الجوامع الحديثية الكبرى.

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1-     الصحيفة السجادية. الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام). دعاء رقم 27: الدعاء لأهل الثغور.

2-      شرح نهج البلاغة. ابن أبي الحديد المعتزلي، عبد الحميد بن هبة الله (ت 656 هـ). الجزء 18، الصفحة 105.

3-      كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال. المتقي الهندي، علاء الدين علي بن حسام الدين (ت 975 هـ). رقم الحديث 7641.

4-      جامع أحاديث الشيعة. البروجردي، السيد حسين (ت 1380 هـ).


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد السمناوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/06/25


  أحدث مشاركات الكاتب :

    • دِلَالَةُ الِاسْتِبْدَالِ الْإِلَهِيِّ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: قِرَاءَةٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ  (المقالات)

    • مِنْ دُكَّانِ التَّمْرِ إِلَى مَنَصَّةِ الصُّلْبِ: المَسَارُ الثَّوْرِيُّ لِمِيْثَمِ التَّمَّارِ فِي رِحَابِ مَدْرَسَةِ الإِمَامِ عَلِيٍّ (عليه السلام)  (المقالات)

    • عمومية زيارة الغدير في فكر الشيخ عباس القمي: دراسة في دلالات عدم التقيُّد بزمان أو مكان  (المقالات)

    • الغدير: يوم تنصيب الأوصياء وتكامل الدين - قراءة في الأبعاد العقديّة، التاريخيّة والاجتماعيّة  (المقالات)

    • "اليقظة الليليّة بين إغراءات "الرّها" وبركات القيام: دراسة في الحِكَم التربويّة والمنهج العملي المستنبط من روايات المعصومين عليهم السلام"  (المقالات)



كتابة تعليق لموضوع : الِاسْتْرَاتِيجِيَّةُ الدِّفَاعِيَّةُ الشَّامِلَةُ فِي الْفِكْرِ الْإِمَامِيِّ: قِرَاءَةٌ فِي الْأَبْعَادِ الْجِهَادِيَّةِ وَالتَّرْبَوِيَّةِ لِدُعَاءِ أَهْلِ الثُّغُورِ لِلْإِمَامِ السَّجَّادِ (عليه السلام) محمد السمناوي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net