يوم الغدير وسيميائية الحدث في الخطاب الإسلامي
فلاح السعدي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
فلاح السعدي

المقدمة:
تُمثِّل واقعة يوم الغدير والتي جرت أحداثها أثناء عود النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من حجة الوداع في يوم (18من ذي الحجة سنة 10هـ) حدثًا محوريًّا في التاريخ الإسلامي، تجلَّت فيه دلالاتٌ سيميائية عميقة من خلال المكان والزمان حتى طقس ذلك اليوم متمثلا بالإعلان الصادر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ولاية علي بن أبي طالب () بقوله: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه))، والذي نص فيه أمام جمهور كثير تخلله حضور كبير من الصحابة آنذاك، وحيث قد اختلفت التأويلات لهذه الواقعة المفصلية بين المذاهب الإسلامية من حيث أثره ومدلولاته، إلا أن هذا الأمر كما نتج منه إعلان لتنصيب علي بن أبي طالب () إماما، كذا نتج منه صراع تولد نتيجة ادعاء أهل السنة أن الحديث يبين فضائل علي بن أبي طالب () وليست إمامته، وبعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تطور الأمر إلى أن يدّعي البعض أنه لا تنصيب بالنص بل بالشورى، مما دل على فوران الحسد لدى البعض نتيجة حب الدنيا ونتيجة السعي إلى التسيد على القوم مما أحدث اختلافا عميقا في تفسير هذه الواقعة في التراث الديني بين المذاهب الإسلامية، هذا البحث يهدف إلى تحليل السيميائية المرتبطة بواقعة يوم الغدير، مع التركيز على الرموز والدلالات التي شكلت هويته في الوعي الجمعي الإسلامي، كما سنبينه أدناه:
أولا/ سيميائية المكان والزمان ليوم الغدير:
1. مكان الواقعة: هو موضع غدير يدعى خم قرب الجحفة (بين مكة والمدينة)، وقد اختير موقعٌ صحراوي جافّ عند مفترق طرق حجاج بيت الله، وهذا له أثر في انتشار الخبر جغرافيًّا حيث يحمل دلالةً على الشمولية والعمومية، كونه نقطة التقاء للمسلمين القادمين من مناطق مختلفة.
2. زمان الواقعة: تزامن الحدث مع حجة الوداع والتي تعتبر بحسب النصوص (آخر حجّة للنبي ﷺ)، مما يعطيه بُعدًا "ختاميًّا" يرتبط بإكمال الرسالة. كما أن وقوع هذا الحدث في فصل الصيف، حيثُ الحرُّ الشديد، يعزِّز رسوخ المشهد في ذاكرة الجمع الحاضر من الناس.
3. الظروف الجوية: وُصِفَ يوم واقعة الغدير من حيث الأجواء المناخية بحرٍّ لافح، حتى روي عن زيد بن أرقم في حديثه ((... وإن منا من يضع رداءه تحت قدميه من شدة الحر ومنا من يضعه فوق رأسه...))، مما يجعل المشهد أكثرَ تميُّزًا ووضوحًا في الروايات والنصوص التاريخية.
ثانيا/ سيميائية إجراءات ومراسم يوم الغدير:
1. النداء والاجتماع: استدعى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحاضرين حيث ((... نودي بالصلاة جامعة...))، وهي صيغةٌ نادرة تُستخدم للأمور المصيرية، مما يعطي الحدثَ طابعًا رسميًّا وملحًّا .
2. المنبر الرمزي: صُنع منبرٌ من أسنمة الإبل أو الأحجار، وارتقاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الإمام علي () ليراه الجميع، هذه الحركة تُحيل إلى إظهار شخص للناس ليراه البعيد والقريب غاية التتويج العلني ومنه تبرز أهمية الإعلان.
3. رفع اليد: وضع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يده بيد علي ()، ((... فرفعهما حتى رئي بياض إبطيهما ...))، وهي إشارة بصرية توحي بالنصّ الصريح والبيعة العلنية، مما يعزِّز شرعية وثبوت المراد.
ثالثا/ سيميائية لغة خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الغدير:
1. الكلمة المحورية: وهي قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ((... مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه ...))، والتي الحقها (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعاء: ((... اللهم والِ مَن والاه...)). هذه العبارة تحمل دلالات متباينة:
- التأويل الشيعي: تُعتبر نصًّا صريحًا في الولاية والخلافة، مدعومةً بنزول آية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ(المائدة:3).
- التأويل السني: تُفسَّر كإشارة إلى المحبة والمنزلة الرفيعة لعلي ()، دون دلالة على الخلافة .
2. ربط الثقلين: ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ((... كتاب الله وعترتي ...)) كمرجعين لا يفترقان، مما يعزِّز فكرة الاستمرارية الدينية عبر الإمامة عند الشيعة.
رابعا/ السياق التاريخي والصراع التأويلي:
1. الرؤية الشيعية: ترى أن الحدثَ تأسيسٌ لولاية علي () كإمامٍ منصوص عليه، ويُعتبر عيد الغدير ذكرى لهذا التنصيب.
2. الرؤية السنية: تُقلِّل من دلالة خطبة الوداع والنص على إمامة علي بن أبي طالب ()، وتُفسِّره كموقفٍ لتصحيح وضع علي () بعد شكاوى بعض الجنود في غزوة اليمن.
3. النقد التاريخي: يشكك بعض علماء السنة (كابن تيمية) في صحة زيادات الحديث مثل (( ... وانصر مَن نصره...))، بينما يؤكد آخرون (كالألباني) صحته بأسانيد مختلفة .
خامسا/ الأبعاد الرمزية في الثقافة الإسلامية:
1. عيد الغدير: يحتفل به الشيعة كـ(عيد الله الأكبر)، مع مستحبات عبادية كالصوم والغسل، بينما لا يعترف السنة به كمناسبة دينية .
2. السيميائية الأدبية: استُخدم الحدث في الشعر (كأبيات حسان بن ثابت):
يناديهم يوم الغدير نبيهم ... بخم وأسمع بالرسول مناديا
فقال: فمن مولاكم ونبيكم؟ ... فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت نبينا ... ولم تلق منا في الولاية عاصيا
فقال له: قم يا علي؟ فإنني ... رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه ... فكونوا له أتباع صدق مواليا
هناك دعا اللهم؟ وال وليه ... وكن للذي عادا عليا معاديا
3. الذاكرة الجمعية: والتي تعني تجمّع مشترك من المعرفة والمعلومات في ذاكرة شخصين أو أكثر، كما يؤكد عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبواكس أن الذاكرة الجمعية، مثل أي كائن حي، تحتاج إلى العناية والاهتمام لكي تستمر ويستمر وجودها، ويشبهها بالكائن الحي الذي يحتاج إلى الرعاية والتغذية من أجل البقاء، وهذا ما يوضحه دور التقاليد الاجتماعية والاحتفالات والعادات في حفظ هذه الذاكرة، وفي يوم الغدير حُفِظت التفاصيل الحسية (الحرّ، الأشجار، الصوت ، المنبر ، رفع اليدين ، واحتفال المسلمين وتقديم التهاني لعلي ...) كما في تاريخ أبن عساكر ((...بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم فأنزل الله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا(المائدة:3)، كل هذه تعتبر أدوات لترسيخ هذه الواقعة المفصلية في حياة المسلمين والتاريخ والأجيال اللاحقة.
الخاتمة:
يوم الغدير ليس حدثًا تاريخيًّا فحسب، بل هو نصٌّ مفتوح على التأويل، تجتمع فيه سيميائية المكان والزمان والأجواء المحيطة ولغة الخطاب النبوي، حيث يتفق المسلمون على وقوعه، لكنهم يختلفون في مدلولاته.
المصادر والمراجع:
القرآن الكريم
1. كتاب الغدير للأميني.
2. تاريخ دمشق لإبن عساكر.
3. الأمالي للصدوق
4. الكافي للكليني.
5. الذاكرة الجمعية لموريس هالبواكس.
6. موقع الإمام الحسين: آيات قرآنية نزلت في يوم الغدير.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat