في ذكرى وفاة جدّي (رحمه الله)، أقمنا المراسيم: عزيمة وخطيب ينعىٰ، والذكريات تنبعث من بين الكلمات، تُوقظ ما سكن في القلب من شوق وحنين.
توكلنا على الله، وتوادعنا مع الأحبة، وتبادلنا براءة الذمّة، فالموت حق، وكما يُقال"من يذهب بأمره لا يرجع بأمره".
شددنا الرحال في ليلة حالكة، نُقلّب الحزن في صمتٍ ووجع، وفي القلب شوق لزيارة أهل البيت (عليهم السلام)وقبور من نحب.
سارت بنا السيارة والطريق طويل، بداخلي شعورٌ يشبه أيام عاشوراء، حين تمضي القلوب مثقلة بالحزن.
افتتحنا الرحلة بسورة الفاتحة إلى روح السيدة الطاهرة أم البنين (عليها السلام)، ومضينا...
لكن سرعان ما تغيّر الجو، وبدت السماء تعبّر عن حزنها، رياحٌ عاتية، ورمال ترتفع أمامنا، والرؤية تكاد تنعدم.
بعد تشاورٍ بين أبي وأعمامي، قرّروا العودة. الطريق أصبح خطرًا، وقد قال عمي قول النبي (ﷺ وآله) في مثل هذا المقام، وأشاروا للسائق: "لوف عند أول استدارة".
كنت أظن أن أبي سيتولّى القيادة بخبرته، ولم أكن أتخيّل أننا سنعود أدراجنا.
اشتقت كثيرًا لتلك الزيارة، كنت أعدّ اللحظات حتى أصل.
لكننا عدنا، ومرّ في بالي قوله تعالى:﴿ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾[البقرة:195].
السيارة تميل بفعل الرياح، ونحن نبحث عن نقطة للعودة. وحين وجدناها، عدنا بها... إلى البيت، وإلى الأمان.
في الطريق، شغّلت قصيدة "الدنيا كلها حسين" للسيد سلام الحسيني، وسالت دموعي على خدي، حزينةً، مكسورة، بغصّة لم تنطق.
ثم استمعت إلى "على عيونچ يزينب حلم مذبوح" للملا باسم الكربلائي، وتذكّرت سيدتي زينب، كيف صبرت، واحتسبت، وسهرت تحرس الأطفال، تُرَبّت على قلوبهم الصغيرة رغم الفقد والجراح...
اتصلنا بأهلنا، وأخبرناهم أن يدعوا لنا بالسلامة. وأخذنا نُكثر من قول:
"نادي عليًا مظهر العجائب، تجده عونًا لك في النوائب كُلِ هَمٍّ وغمًا سينجلي بولايتك يا علي يا علي يا علي..."
كان الموقف حقًا مخيفًا، والرياح تعصف، والليل يزداد ظلمة، والأضواء خافتة لا تكاد تُرشد.
سارت بنا السيارة حتى وصلنا سالمين، نحتضن الدفء من جديد.
سبحان الله... المدبّر، اللطيف، الذي يُنقذنا من أنفسنا دون أن ندري.
لقد رافقنا بلطفه في كل لحظة، وكان القرار بالعودة منحة، ورحمة خفية... قبل أن يتعذّر الرجوع أو يُصبح الطريق مصيرًا لا يُحمد عقباه.
إنه اللّٰه... اللطيف بعباده، الذي لا يتركهم في السراء والضراء بَل يَنقُذهم حتىٰ من أنفسهُم.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat