صفحة الكاتب : وفاء الطويل

يا عَيْنُ فابْكِ ما حَيَيْتِ عَلى ذوِي الِذمـــمِ الوفيّة" الشاعر إسماعيل الحميري 
وفاء الطويل

 يتلاقى الوجد والجمال في أفق قصيدة، تتصاعد من الدماء الزاكية من نحر الوتر الموتور، تحمل صدى وجدان واقعة أليمة، يعيش الشاعر هاجسها شعوريا، فينثرها على صفحات الزمن نصا خالدا يؤثر في ضمائر الأجيال ولا يتأثر بالزمن. 
قصيدة من ثلاثة وعشرين بيتا، من مجزوء بحر الكامل، بقافية متواترة، وحرف الروي الياء.  
وهي لشاعر من أعلام شعراء الطف، إنه (السيد إسماعيل بن محمد بن يزيد بن وداع الحميري (اليماني)) 
لقب بالسيد لذكائه وفطنته لا لنسبه، فهو لم يكن فاطمياً أو علوياً. 
وفق في ذلك اللقب حيث روي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) مخاطباً إياه بقوله (سمتك أمك سيداً ووفقت في ذلك، وأنت سيد الشعراء). 
ولد بالشام قريبا من الرحبة، ونشأ بالبصرة، وعاش مترددا بينها وبين الكوفة، ومات ببغداد (وقيل بواسط)  
عاصر السيد الحميري عدداً من الخلفاء الأمويين والعباسيين، ويُعدّ من الشعراء المخضرمين الذين عاشوا جزءً من حياتهم في العصر الأموي والآخر في العصر العباسي (فقد عاصر السيد منذ ولادته حتى وفاته عشرة خلفاء، خمسة من الأمويين، وخمسة من العباسيين) 
ورد في كتاب كامل الزيارات لجعفر بن محمد بن قولويه عن أبي هارون المكفوف، قال: قال أبو عبد الله (ع): يا أبا هارون أنشدني في الحسين (ع)، قال: فأنشدته، فبكى، فقال: أنشدني كما تنشدون (يعني بالرقة) قال: فأنشدته: 
أُمْرُرْ عَلَىْ جَدَثِ الحُسَيْنِ وُقُلْ لِأَعْظُمِهِ الزَّكِيَّةْ 
يَا أَعْظُمًا لَا زِلْتِ مِنْ وَطْفَاءَ سَاكِبَةً رَوِيَّةْ 
مَا لَذَّ عَيْشٌ بَعْدَ رَضِّكِ بِالجِيَادِ الأَعْوَجِيَّةْ 
استهل الشاعر النص بفعل أمر وبأسلوب الخطاب مع الغائب لشخصية متخيلة، وبلوعة وحسرة وحزن، كما عمد في مطلع القصيدة لذكر عظمة الإمام الحسين عليه السلام وعلو مقامه، وعظم مصيبته.  
وبدأ صدر البيت الثاني بنداء (يا أعظما) توجيه المخاطب للأعظم في صورة ﺘﺠـﺴﻴﺩﻴﺔ دقيقة رائعة. 
والوطفاء: السحابة الهاطلة، يريد أن يقول أن تلك الدماء الطاهرة ما زالت ندية وطفاء وما زالت حسرتها ولوعتها باقية 
كما استهل البيت الثالث بأسلوب النفي (ما لذ عيش). 
الجياد الأعوجية: سميت الخيول الأعوجية بهذا الاسم لأسباب عديدة منها وضع عُصبة على عيونها، حتى تنحجب عنها الرؤيا، وتركض مميلة رأسها لليمين أو اليسار 
وقيل هي التي يلوى لجامها لتلوي عنقها فتظل تدور في موضعها، وهذا ما فعله الأعداء بجسد الحسين عليه السلام حيث ظلت الخيل تدور على جسده الشريف. 
ثم يعود لأصالة نسب الحسين عليه السلام وصفاته ومنزلته العظيمة 
حيث أن آباءه خير الخلق قاطبة 
قَبـــــرٌ تَضِمّــــــنَ طيّبــًا آبـــاؤُهُ خَيـرُ البرِيّه 
آباؤُهُ أهـــل الرياســـةِ والخِلافَــــــةِ وَالوصِيّه 
وَالخَيرِ والشِّيــــمِ المهذَّبـــةِ المَطيّبةِ الرّضيّه 
ويقول أنه عليه السلام من أشرف نسل وأعرق أصل فهم أهل الرياسة والخلافة والوصية، إشارة لأحقية أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة 
ولما لجمالية التكرار من دلالة عميقة ترفد المعنى، نجد الشاعر اهتم بتكرار (آبـــاؤُهُ) ليؤكد على مكانته الدينية والاجتماعية. 
فإذا مَرَرْتَ بِقبــــــرِهِ فأطِـــل بِهِ وَقِفَ المَطيّة 
ويعود لمخاطبة المتلقي بأسلوب الأمر (فإذا مَرَرْتَ بِقبــــــرِهِ فأطِـــل بِهِ وَقِفَ) دعودة للوقوف الطويل على ذاك القبر المقدس لما لصاحبه من مكانة وعظمة، والتأمل بتلك المواقف العظيمة، ونجد أن هناك تصاعد في النبض العاطفي، والتدفق الوجداني الشجي.  
وَابْكِ المُطَهّــر للمطهَّـــــرِ والمطَهَّرةِ الزكيَّة 
كَبكــــاءِ مُعْــــوِلَةٍ غَدَتْ يَوماً بِواحِــدِها المنيَّة 
تسود مشاعر الحسرة والألم والتفجع على النص (وَابْكِ المُطَهّــر للمطهَّـــــرِ والمطَهَّرةِ الزكيَّة) هيمنة أسلوب الأمر على النص، فهو يأمر المتلقي قدم عزاءك ورثاءك وبكاءك في الحسين لأبيه وأمه عليهم السلام، مع أسلوب الكناية (المُطَهّــر للمطهَّـــــرِ والمطَهَّرةِ الزكيَّة). 
وَالَعنْ صَــدى عُمَرَ بْنُ سَعْدٍ والمُلمّــــعِ بالنَقيّه 
شِمْرِ بنِ جوشــــنٍ الذي طاحــت بهِ نَفْسٌ شقيّة 
(وَالَعنْ صَــدى عُمَرَ بْنُ سَعْدٍ) الصَّدَى: يأتي بمعنى رجع الصوت ولعله أراد صدى روحه، أي العن صدى روح عمر بن سعد، ليعبر الشاعر عن سخطه واشمئزازه من تلك الشخصيات التي فجعت رسول الله سبطه  
(والمُلمّــــعِ بالنَقيّه): يعني به شمر بن ذي الجوشن لشدة برصه، والذي أهلكته نفسه الشقية 
ويعبر بصورة تقريرية بقوله: 
جَعَلوا ابنَ بنْتِ نَبَّيِهم غَرَضاً كما تُرْمى الذَّرِيّة 
والدَّرِيَّةُ: ما يتعلم عليه الطعن ويقال أنها دابة يستتر بها الصائد من الصيد، فيرميه إذا أمكنه. 
مذكرا بمجريات واقعة الطف الأليمة وما جرى على الإمام الحسين عليه السلام وكيف جعلوه هدفا لنبالهم ورماحهم، معبرا عن ذلك بهجاء لمرتكبي تلك الجريمة البشعة
بحق آل رسول الله صلى الله عليه وآله. 
نقل لنا الشاعر الحميري مآرب القتَلة، وأنهم ما فعلوا ذلك إلا لأجل الحصول على العطية بعد الحرب ظنا منهم أنهم سيحصلون على جعل. 
لمْ يَدْعُهُــــمْ لِقِتـــــالِـــهِ إلا الجعــــالةُ والعَطِيّه 
وتناول في هذه الأبيات ذم جيش عمر بن سعد ومعائبه، ولعل قصد بأولاد البغية (ابن زياد) وأمثاله. 
لَمّا دَعــــوْهُ لِكــــي تُحكَّـــمَ فِيــــهِ أولادُ البغيّه 
أوْلادُ أخْبثِ مَنْ مَشى مَرَحــــــاً وأخْبثهِم سَجِيّه 
فَعَصــــــاهُمُ وأَبَتْ لَـــــــهُ نَفْسٌ مُعَــــزّزةٌ أبيّه 
ما أجمل هذا البيت (فعصاهم) معصية الشيطان وطاعة للخالق 
وهي ترجمة لمقولة الحسين عليه السلام 
"ألا وأن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام" 
الأبي: المترفع عن النواقص الدنيئة، ولا يرضى بالذل  
وحين بلغ الشجن مداه، أطلق السيد الحميري لمشاعره العنان، مشاعر بلوعة شاعر أجهده المصاب 
فغدوا لهُ بالسابغاتِ عليهِمُ والمشرَفيّة 
أي انطلقوا إليه بالسابغات، والسابغات جمع سابغة: وهي دروع واسِعَة طويلة واقية. 
المشرفي: من أنواع السيوف، والمشارف قرى من أرض اليمن ومتل أي (فيافي) من أرض العرب تدنو من الريف، والسيوف المشرفية منسوبة إليها 
والبِيضِ واليَلَبِ اليمانيْ والطِــــوالِ السَّمْهَريَّة 
والبيض: هي السيوف، واليلب: جلودٌ يُخرزُ بعضُها إِلى بعض، تُلْبَس على الرؤوس، واليَلَبُ الفُولاذُ من الحديد، والسمهرية: الرمح الصلبة. 
وَهُمُ أُلـــــوفُ وَهْوَ في سَبْعينَ نَفْســــاً هاِشمِيِة 
فَلَقـــــوْهُ في خَلَفٍ لأحمــــدَ مُقبِليِـــنَ مِنَ الثّنيِّة 
وقوله (سبعين نفسا هاشمية) أراد به الانتماء والولاء والمذهب وإلا فإن أصحاب الحسين عليه السلام لم يكونوا جميعا من بني هاشم. 
الثنية: الثنية في اللغة تعني الطريق في الجبل، وثنية الوداع يقصد بها الموقع التاريخي الواقع على مدخل المدينة المنورة 
يشير الشاعر إلى أن الحسين عليه السلام ورهطه أقبلوا من شبه الجزيرة العربية. 
وواصل رثاءه ونديته على سيد الشهداء عليه السلام بمشاعر ملتهبة، تنفيسا عما يعتمل في صدره 
مستيقنين بأنّهــــم سِيقــــوا لأسبــــــــابِ المنية 
(لأسباب المنية) أي القتل في المعركة والشهادة 
نلاحظ بهذا البيت هيمنة الأجراس النون الياء والسين. 
وما زال يحث عينه على البكاء على أصحاب العهود، الأوفياء لدين الله عز وجل، في صورة تجسيدية هادفة لتدعيم فكرة النص. 
يا عَيْنُ فابْكِ ما حَيَيْتِ عَلى ذوِي الِذمـــمِ الوفيّة 
لا عُذرَ في تَــــــرْكِ البُكاءِ دَمــاً وأنْتِ بهِ حَريّة 
أجاد الشاعر بحسن التخلص والختام حيث أن الانتقالات بين المقدمة وموضوع القصيدة والختام كان سلسا دون انقطاع 
كما امتاز النص بجودة السبك، وقوة اللغة، وقوة التيار العاطفي ودقة التعابير والتماسك في بناء الهرم الشِّعري، فهو يملك ثروة لغوية وشعرية عالية.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


وفاء الطويل
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/03/18



كتابة تعليق لموضوع : يا عَيْنُ فابْكِ ما حَيَيْتِ عَلى ذوِي الِذمـــمِ الوفيّة" الشاعر إسماعيل الحميري 
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net