صفحة الكاتب : وفاء الطويل

تجلّيات فنية في رباعيات الشيخ البهائي
وفاء الطويل

 يا كراماً صَبـرُنا عنهـم مُحـالْ         إنّ حالي مِن جَفاكُم شـرُّ حـالْ

إن أتى مِن حَيِّكُم ريـحُ الشمـالْ    صِرتُ لا أدري يميني مِن شمالْ
نَفَسُ الوجدان حين يضيق بالشوق، نداء روح أضناها الغياب، لتتحول إلى عاصفة تربك الجهات تبعثر الإدراك.
نص مصاغ بحرقة المودة، مضمخ بالأوجاع، تنطق به موسيقى بحر الرمل الحزينة بصور تتقاطر ألمًا وشوقًا.من شاعر من شعراء اهل البيت عليهم السلام ،
هو للشيخ بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد بن محمد بن علي بن الحسين بن صالح بن إسماعيل الحارثي الهمداني العاملي الجبعي المعروف بـ (الشيخ البهائي)، مفخرة الشيعة، وشيخ الطائفة في عصره، إليه انتهت علومها.
وقد اختلف في مكان ولادته فقيل في (بعلبك) بلبنان وقيل في قزوين وقيل في أصفهان وقيل في مدينة آمل المازندرانية أو الخراسانية.
وانطلاقًا من الحرارة الوجدانية المتوهجة في النص، نمضي إلى تحليل بعض أبياته من حيث البناء الفني، مستقرئين لغته، وصوره، وإيقاعه، لنكشف عمق التجربة الشعورية وجماليات التعبير فيها.
بحر النص الرمل، مبني على شكل رباعيات بقواف متعددة

حَبَّذا ريحٌ سَرى مِن ذي سَلَـمْ   
مِن رُبى نَجْدٍ وسَلْعٍ والعَلَمْ 
أذهَبَ الأحزانَ عنّـا والألـمْ      
والأماني أُدرِكَت والهـمُّ زالْ

يا أخلّائـي بحُـزْوى والعقيـقْ     
ما يُطيق الهَجْرَ قلبي.. ما يُطيقْ
هل لمشتاقٍ إليكـم مِن طريـقْ    
أم سَدَدتم عنه أبواب الوِصالْ؟!
النص مبني على وحدات رباعية (كل مقطع يضم ثلاثة أشطر متّحدة الوزن والقافية والشطر الرابع يقفل بقافية لامية)، نمط يضفي على البنية الشعرية إيقاعيًا جميلا، ويمنح كل رباعية استقلالًا شعوريًا نسبيًا، ضمن نسيج شعري عام.
الصور الشعرية: تزخر الرباعيات بصور وجدانية حسيّة ورمزية:
"أذهب الأحزان عنّا" – كناية عن تأثير الذكرى أو الخبر الجميل المنتظر.
"أم سددتم أبواب الوصال؟" – تخييل مجازي للغياب كأبواب مغلقة.
الأسلوب ينبني على تنويع فني بين النداء، التعجب، الاستفهام، والشرط، مما يخلق ديناميكية داخل النص ويعبر عن وجد وجداني حاد
"يا كرامًا": نداء شجي مليء بالرجاء.
"حبذا ريحٌ سرى" تمني يدل على التعلق الشديد بكل ما يأتي من جهة الأحبة.
"هل لمشتاق": استفهام يوحي بالشوق المتشبث بالأمل.
البنية الشعورية في النص: كل رباعية تشكل موجة وجدانية:
- الأولى: انكسار تحت وطأة الغياب.
- الثانية: انفراج نسبي مع تذكّر نسيم الأحبة.
- الثالثة: عودة إلى اللوعة والرجاء.
هذا التدرج يُضفي على النص عمقًا نفسيًا، ويجعل المتلقي يعيش التقلّبات الشعورية للمحب في زمن الغياب.

لا تَلُوموني على فَرطِ الضَّجَرْ   
ليس قلبي مِن حديدٍ أو حَجَـرْ
فات مطلوبي.. ومحبوبي هَجَرْ   
والحشا في كلِّ آنٍ في اشتعالْ

مَن رأى وَجْدي لسكّانِ الحَجُـونْ     
قال: ما هذا هوىً.. هذا جُنونْ! 
أيُّهـا اللُّـوّامُ مـاذا تـبتغـونْ؟!      
قلبيَ المُضْنى.. وعقلي ذو اعتقالْ
ينطلق الشاعر من موقف دفاعي، متوجهًا بالخطاب إلى "اللُّوّام" الذين يعاتبونه على هيامه وشدة وجده، فينفجر برد عاطفي قائلا:
"لا تلوموني على فرط الضجر"
أبيات تصرخ بما يعتمل في داخل الشيخ البهائي قدس سره "هو ليس ترفًا عاطفيًا" إنه ينفي عن نفسه التبلّد، ويؤكد أنه إنسان من لحم ودم ومشاعر، وهنا يعلو صوته في وجه أولئك الذين لا يدركون مدى معاناته.
ثمّ يأتي العلّة الكبرى: "فات مطلوبـي.. ومحبوبي هجـر"
فهو يعيش فقدانًا مزدوجًا: ما كان يرجوه ويهواه غاب وهجر، وفي ذلك ما يأجج التوق، ويحرق القلب لذلك: "والحشا في كل آنٍ في اشتعالْ"
بيت بالغ التعبير، تذوب فيه الذات، وتتحوّل الأحشاء إلى جمرٍ لا ينطفئ.
"مَن رأى وجدي لسكان الحَجونْ    
قال: ما هذا هوىً.. هذا جنون!"
في انتقالة مشحونة بالإثارة، يرسم الشيخ صورة وجدانية تخطف الأبصار: هو يشتكي الوجد ويستعرض حالته للمتلقي" (الحجون: موضع مقبرة بمكة، دفنت فيه السيدة خديجة وعبد المطلب) هو يقول أن رأيتم حالي ستعجبون من احتراقي!
ويحول الشوق من أمرٍ مألوف إلى جنون معلَن، فليس في وسع العقل تحمل هذا القدر من اللوعة، وهنا تأتي صرخته المرّة: "أيّها اللوّامُ ماذا تبتغونْ؟!"
استفهام يكثف العجز والانكسار معًا، يواجه به من يلومونه، وهو في أقصى درجات الذوبان الوجداني.
"قلبي المُضنى.. وعقلي ذو اعتقالْ": في ختام المقطع، يكثف المفارقة الوجودية: القلب مضنى محترق، والعقل مأسور، مكبل، فلا الجسد يستريح، ولا الفكر يهدأ
النص يتمتع بلغة جزلة رقيقة، تمزج بين الفصاحة والبساطة، وتراعي التوتر النفسي.
تتنوع الصور في النص بين التصوير الداخلي (اشتعال الحشا) والتصوير الخارجي (دهشة المتلقي)، ما يمنح النص بعدًا دراميًا لافتًا بأسلوب خطابي فيه صراع مع المجتمع، وهذا الأسلوب يضيف بعدًا جدليًّا مع الآخرين (اللوام، الرأي العام، نظرة الناس).
نص يضج بالانفعال، يفيض بالمرارة، ويتحلى بالعاطفة الصادقة، نداء عاشقٍ منتظر، يرى في تعلقه ما لا يفهمه العقل، ولا تحتمله أعين الناس، يعلن بذلك أن بعض الأشواق لا يمكن أن تدرك.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


وفاء الطويل
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/10/22



كتابة تعليق لموضوع : تجلّيات فنية في رباعيات الشيخ البهائي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net