صفحة الكاتب : زاهر حسين العبدالله

حوارية ( ١٥٨) من يصنع أفكاري؟ بين وعي القرآن وتوجيه الإعلام
زاهر حسين العبدالله

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 السائل:

أستاذي، كثيرًا ما أتساءل: من أين تأتي أفكارنا؟ وهل حقًا نملك ما نؤمن به؟ أم أن هناك من يصنعه لنا ونحن لا نشعر؟

الجواب بسمه تعالى :

سؤال جميل يا بُنيّ، وأحييك عليه... لأن أول الوعي هو أن تتساءل.
نحن اليوم لا نعيش أزمة معرفة، بل أزمة توجيه معرفة.
كثيرون يعرفون، لكن القليل فقط يدرك من أين جاءت معارفهم، وإلى أين تقودهم.
لسنا بحاجة إلى من يُخبرنا ماذا نعرف، بل إلى من يوقظ فينا السؤال الأهم: من الذي زرع فينا ما نعرف؟

قال تعالى:

﴿ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾
(سورة الإسراء، الآية 36)

السائل :

إذن الفكر يُصنع كما تُصنع السلع؟

 

الجواب :

نعم تمامًا، يُصنع ويُسوَّق كما تُسوّق المنتجات.
فالإعلام اليوم لا يبيعنا منتجاتٍ مادية فحسب، بل يبيعنا أفكارًا واتجاهات وقناعات.
ومع تدفق الصور والمقاطع بلا توقف، تُصنع الأفكار وفق آلياتٍ نفسية وإعلامية دقيقة تقوم على أربع ركائز:
التكرار، العاطفة، التأطير، والعزلة.

🔹 أولًا: التكرار:
ما يتكرر يصبح مألوفًا، وما يألفه الإنسان يميل لتصديقه.
حين يُعاد على الأسماع والمعارض نفس المعنى كل يوم، يتحول من الغرابة إلى القبول.
الشاب الذي يسمع يوميًا أن "النجاح يعني الشهرة"، سيقتنع بها دون أن يدري.
فالتكرار يصنع الاعتياد، والاعتياد يصنع القناعة.

🔹 ثانيًا: العاطفة:
الإعلام الحديث لا يقنع بالعقل، بل بالمشاعر.
مشهد مؤثر، موسيقى حزينة، أو قصة درامية قادرة على تبديل قناعةٍ راسخة، لا لأنها منطقية، بل لأنها لامست القلب قبل العقل.
ولهذا يُخاطب الإعلام القلب أولًا، ليُغيب التفكير، فيستسلم المتلقي لما يُحب لا لما يصحّ.

🔹 ثالثًا: التأطير: هو فنّ عرض الحدث لا الحدث نفسه.
قد تُصوَّر الواقعة الواحدة في صورتين متناقضتين: بطولة في جهة، وهمجية في جهة أخرى — بحسب زاوية العرض والكلمات المستخدمة.
الإطار هو من يصنع القناعة، لا الحدث ذاته.

🔹 رابعًا: العزلة
حين يُعزل الإنسان عن القرآن والعترة ومجالس العلماء، يفقد مناعته الفكرية.
العزلة الفكرية أخطر من الجسدية؛ لأنها تفصله عن منابعه الأصيلة، وتجعل فكره سهل الاختطاف.
حين يغيب النور... تتشابه الأصوات في الظلام.

 

السائل :


وكيف نواجه هذا الطوفان الإعلامي يا أستاذ؟

 

الجواب:


بأن نُعيد اتصالنا بمصدر النور: القرآن الكريم.
المنصّات تُغذّي الضجيج اللحظي والانفعال العابر،
أما القرآن فيغذي البصيرة والهدوء الداخلي.

قال تعالى:

﴿ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ﴾
(سورة القيامة، الآيتان 14-15)

وفي تفسير الأمثل للشيخ مكارم الشيرازي:
«أفضل شاهد على الإنسان هو نفسه، لأنها تعرف حقيقتها أكثر من غيرها، وإنّ الله تعالى أقام عليها الحجّة بالدلائل الباطنية والظاهرية)

وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام)

(ما يصنع أحدكم أن يُظهر حسنًا ويُسرّ سيئًا؟ أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنه ليس كذلك؟ والله سبحانه يقول: بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية).(١)

 

السائل :

فالقرآن إذن يدعونا إلى أن نكون صادقين مع أنفسنا قبل أي شيء؟

 

الجواب:

نعم يا بنيّ. الوعي القرآني هو وعي الصدق الداخلي والبصيرة.
قال تعالى:

﴿ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾
(سورة آل عمران، الآية 118)

القرآن يخاطب العقول الحرة التي تبحث عن المعنى، لا الأهواء التي تتبع الصخب.
الوعي القرآني هو البوصلة التي توازن بين العقل والعاطفة، وبين الهدوء والضجيج، وبين الحقيقة والزيف.

السائل:

ومن هو الشاب الواعي في نظر القرآن؟

 

الجواب :

هو من يملك الأسئلة الصحيحة لا الإجابات الجاهزة المنتشرة دون دليل.
بحيث

يسأل: من أين جاءت الفكرة؟ ما دليلها؟ من المستفيد منها؟
يزن القول بالحجة لا بعدد الإعجابات، ولا يجعل "الترند" مقياسًا للحق.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام)

(انظر إلى ما قال، ولا تنظر إلى من قال).(٢)
وقال أيضًا:
(إنّ الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله).(٣) 

 

السائل :

وما دور الشاب الجامعي في هذا الوعي؟

 

الجواب :

الجامعة ليست مكانًا للدراسة فحسب، بل مصنع وعي وصناعة مستقبل.
أنت تصنع فكر المجتمع القادم، فكن صاحب بصمة، لا نسخة مكرّرة.
واجعل الإعلام وسيلة معرفة، لا مرجع إيمان.

قال تعالى:

﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾
(سورة الزمر، الآية 18)

وفي حديث النبي صلى الله عليه وآله:

(كأنّي دُعِيت فأجبت، وإنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلُفوني فيهما).(٤) 

 

السائل :


لكن يا أستاذ، أليست حرية الفكر حقًّا مشروعًا؟

 

الجواب :

بالتأكيد، لكن هناك فرق بين حرية الفكر وفوضى الفكر.
الحرية أن تُعمل عقلك في ضوء القيم، لا أن تتركه في ظلام الهوى.

 

قال الإمام علي (عليه السلام)

(ما عُبد الله بشيء أفضل من العقل، وما تمّ عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتّى... وهو تمام الأمر).(٥) 

الوجه

حرية الفكر

الفوضى الفكرية

المنطلق

العقل الملتزم بالقيم

الهوى المنفلت من الضوابط

الهدف

الوصول إلى الحق وتحرير العقل

هدم الثوابت وتمييع الهوية

الضابطة

الشرع والعقل والأخلاق

المزاج والرغبة

الأثر

نهضة حضارية

فوضى معرفية وانحطاط قيمي

فوضى معرفية وانحطاط قيمي

حرية الفكر شمعة تنير الطريق 🔥
أما الفوضى الفكرية فهي نارٌ تلتهم الهوية.

 

السائل :

وكيف نوازن بين الانفتاح والهوية؟

 

الجواب:

الانفتاح لا يعني الذوبان، والهوية لا تعني الانغلاق.
الهوية جذرٌ نغتذي منه ونحن ننفتح على العالم.
خذ من العالم ما يُغني قيمك لا ما يُبدّدها.
الهوية تمنحك الاتجاه، والانفتاح يمنحك الأفق؛ فإذا حافظت على الاتجاه وأنت تسير نحو الأفق، كنت أمةً تعرف من هي وإلى أين تمضي.

👦 السائل:


وهل القرآن مرجع صالح للفكر المعاصر؟

 

الجواب:

بلى وربّ الكعبة.
قال تعالى:

﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾
(سورة النحل، الآية 89)

وعن الإمام الباقر (عليه السلام)

(إنّ الله أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى والله ما ترك شيئًا تحتاج إليه هذه الأمة).(٦) (تفسير النور – كنز الدقائق)

فالقرآن نورٌ للهداية والفكر، فيه أصل كل قضيةٍ إنسانية، وعلاج كل أزمة فكرية.

 

السائل :

أشعر أن كل شيء يعود إلى القرآن في النهاية.

 

 

الجواب :

نعم يا بُنيّ، فالقرآن والعترة والعقل السليم هم مفاتيح الوعي الحقيقي.
قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ (سورة الأنفال، الآية 29)
﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ (سورة الطلاق، الآية 2)

🌿 الفكر الذي لا تصنعه أنت... سيصنعك هو.
فكن أنت الصانع، لا المفعول به 

 

✍️ زاهر حسين العبد الله


📚 المراجع:

1.         مجمع البيان، ج10، ص396

2.         غرر الحكم ودرر الكلم بشرح الخوانساري، ج6، ص266، ح10189

3.         التبيان في تفسير القرآن، ج1، ص190

4.         حديث الثقلين – الشيخ الصدوق، رقم 40

5.         الكافي الشريف، ج1، ص39

6.         تفسير النور – كنز الدقائق

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


زاهر حسين العبدالله
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/10/22



كتابة تعليق لموضوع : حوارية ( ١٥٨) من يصنع أفكاري؟ بين وعي القرآن وتوجيه الإعلام
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net