تأريخية الشعائر الحسينية
محمد قاسم الطائي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد قاسم الطائي

ذهب بعض الباحثين أن تاريخيّة الشعائر الحسينية لم تكن موجودة في عصر الأئمة عليهم السلام، وإنما ولدت متأخراً، وبشكل محدد في عصر الدولة البويهية لما بسطت نفوذها على بغداد بحدود القرن الرابع هجري، ومستند هذا الرأي مرويات ابن كثير الدمشقي المتوفى سنة" 774 هــ" وابن كثير معروف بهجومه على عقائد الشيعة الامامية؛ قال: «لما دخلت سنة أربع وخمسين وثلاثمائة في عاشر المحرم منها عملت الشيعة مآتمهم وبدعتهم ... وغلقت الأسواق وعلقت المسوح، وخرجت النساء سافرات ناشرات شعورهن، ينحن ويلطمن وجوههن في الأسواق والأزقة على الحسين، وهذا تكلّف لا حاجة إليه في الاسلام..»(١) وبالجملة هذا الكلام غير دقيق ومخالف للثوابت التاريخية المسجلة، فأصول الشعائر الحسينية المعروفة كالعزاء والبكاء والإحياء والزيارة جاءت فور شهادته (عليه السلام) بل بعضها كان قبل ذلك كما لاحظنا(٢) جملة من الروايات التي لا مجال لإنكارها منها على سبيل الحصر مسألة بكاء النبي وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما لما أخبرا بفاجعة مقتل الحسين مع الصفوة من آل بيته وصحبه الأوفياء في تلك الملحمة الدامية على أرض كربلاء، وهذا بنفسه تشريع تأسيسي ساطع الحجية لأسس المأتم الحسيني فضلاً عما يستفاد منه البُعد التاريخي الموسوم بأسبقية إقامة مآتم العزاء .
نعم أن المأتم الحسيني خلال مسيرته التاريخية مر بتطورات تدريجية حتى وصل بالشكل الذي عليه من حيث امتداد عدم الفصل عن هوية العقيدة والأخذ بطبيعة أهدافه ومقاصده وسموه نحو رسالة السماء الحقة، وللوقوف على ذلك بشكل مفصلي يمكن ملاحظة ذلك بحيثية التتبع بدءاً من عهد الامام السجاد (عليه السلام) والسبايا الهاشميات والفترة التي تخللت عهد الامام الباقر والصادق (عليهما السلام) إبان أفول الدولة الأموية وبداية نشوء السطوة العباسية، وكذلك لما بلغ أوج السلطة العباسية أعلى درجات السطو وإحكام القبضة، المتزامن مع فترة عهد الامام الكاظم والرضا والجواد والهادي عليهم السلام، في حين كانت ضغوطات السلطة مستمرة والمضايقات التي عاشها شيعة أهل البيت لا تخفى في بشاعة الظلم والاضطهاد وطريقة الاقصاء التي مورست بحقهم، وأن كانت متفاوتة من حيث الشدة والتخفيف بحسب أسلوب الخليفة الحاكم ومزاجه أعني بخصوص التعامل مع الشيعة وعقائدهم وشعائرهم الدينية، فمثلاً طريقة حكم المتوكل وأسلوبه كان مختلفاً عن عقلية وأسلوب المأمون وبعض خلفاء بني العباس، فالمعروف أن سياسة الخليفة المتوكل تميزت بالفظاظة المفرطة والتعصب المقيت والبغض الصريح لأهل البيت ولشيعتهم، وأثر ذلك كانت إجراءاته متسمة بالشدة والمضايقة عليهم ومنعهم بالشكل الصارم من زيارة قبر أبي الأحرار، بل وأكثر من ذلك ففي سنة (236هــ) ذكر الطبري أن المتوكل أصدر أمراً « بهدم قبر الحسين بن علي وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يُحرث ويبذر، ويسقى موضع قبره، وان يمنع الناس من إتيانه، فذكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة أيام بعثنا به إلى المطبَق فهرب الناس وامتنعوا من المصير إليه ..»(٣)
والغريب أن بعض النقولات التاريخية ذكرت أن المتوكل كان باغضاً حتى للخلفاء العباسيين أنفسهم الذين سبقوه كالمأمون والواثق، فضلاً عن الفسق والفجور الذي يتصف بها، كما أن حادثة قتله داخل الأجواء العباسية الحاكمة كاشفة بنفسها عن رداءة طبعة وسوء تصرفاته وفعاله فضلاً عن مشاكسة سلوكه مع عامة المسلمين، لذا قال السيوطي في (تاريخ الخلفاء) ص346: كان المتوكل معروفاً بالتعصب فتألم المسلمون من ذلك وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء فمما قيل في ذلك والشاعر يعني بذلك[ قصة هدمه لقبر الحسين] : يقول
بِاللهِ إِنْ كَانَتْ أُمَيَّةُ قَدْ أَتَتْ
قَتْلَ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهَا مَظْلُومًا.
فَلَقَدْ أَتَاهُ بَنُو أَبِيهِ بِمِثْلِهِ
هَذَا لَعَمْرِي قَبْرُهُ مَهْدُومًا.
أَسِفُوا عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا شَارَكُوا
فِي قَتْلِهِ فَتَتَبَّعُوهُ رَمِيمًا.(٤)
فالمحصل إنّ شعيرة المأتم الحسيني ليس كما صورتها بعض القناعات الساذجة بهذه الشكل المبتسر؛ الصحيح أن الشعائر الحسينية كانت في جميع الأحوال والظروف التي مر بها تاريخ التشيع فهي المشعل البرّاق والنور المتوهج الذي بث أحكام الدين وصدح بذكرى ظلامة آل بيت النبوة وما جرى عليهم، وفي الوقت ذاته يعد المداد الناشر لعلومهم وسننهم وفضائلهم وأخلاقهم ونهجهم الناصع الذي يعد بحق المعين الصافي والمنبع الأصيل الذي هو روح الأسلام الحقيقي، وبهذا المعنى يتضح السر في مديات تأكيد أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم حول القيمة الروحية لهذه المجالس التي تشكل المرآة العاكسة لشعار الدين الوحياني الذي لابد أن يحفظ، كما أنّه حياة للنفوس المؤمنة بتلك المقاصد إلالهية الهادفة .
فقد جاء في كتاب [الأغاني] لأبي فرج الاصفهاني المتوفى سنة "356هــ": قال ذكر التميمي و هو علي بن اسماعيل عن أبيه قال كنت عند أبي عبداللّه جعفر بن محمّد ( عليه السلام ) إذ استأذن ، إذنه للسيّد ، فأمره بإيصاله، وأقعد حرمه خلف ستر، ودخل فسلّم وجلس فأستنشده فأنشد قوله :
أمرر على جدث الحسين فقل لأعظمه الزّكية
أأعظماً لا زلت من وطفاء ساكبة رويّة
واذا مررت بقبره فأطل به وقف المطيّة
وابكِ المطهّر للمطهر و المطهرة النّقية
كبكاء معولة أتت يوماً لواحدها المنيّة
قال فرأيت دموع جعفر بن محمّد ( عليه السلام ) تنحدر على خدّيه، و أرتفع الصراخ و البكاء من داره حتّى امره بالإمساك فأمسك »(٥)
روى إبن قولويه المتوفى سنة" 367هــ" عن أبي هارون المكفوف قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال لي:أنشدني فأنشدته، فقال: لا، كما تنشدون، وكما ترثيه عند قبره، قال: فأنشدته:
أمرر على جدثِ الحسين
فقل لأعظـمه الزكية
قال: فلما بكى أمسكت أنا، فقال: مر، فمررت،
قال: ثم قال: زدني زدني قال: فأنشدته:
يا مريم قومي فاندبي مولاكِ
وعلى الحسين فاسعدي ببكاكِ
قال: فبكى وتهايج النساء، قال: فلما أن سكتنَ قال [عليه السلام] : يا أبا هارون: من أنشد في الحسين (عليه السلام) فأبكى عشرة فله الجنة، ثم جعل ينقص واحداً واحداً حتى بلغ الواحد فقال من أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنة، ثم قال: من ذكره فبكى فله الجنة»٦
فقد روى إبن قولويه عن عبد الله بن حماد البصري، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: قال لي: ان عندكم - أو قال: في قربكم - لفضيلة ما أوتي أحد مثلها، وما أحسبكم تعرفونها كنه معرفتها...ولا تحافظون عليها ولا على القيام بها، وان لها لأهلاً خاصة قد سموا لها، وأعطوها بلا حول منهم ولا قوة، الا ما كان من صنع الله لهم وسعادة حباهم الله بها رحمة ورأفة وتقدم
قلت: جعلت فداك وما هذا الذي وصفت ولم تسمه، قال: زيارة جدي الحسين بن علي (عليهما السلام)، فإنّه غريب بأرض غربة، يبكيه من زاره، ويحزن له من لم يزره، ويحترق له من لم يشهده.. إلى أن قال: بلغني أن قوماً يأتونه من نواحي الكوفة، وناساً من غيرهم، ونساء يندبنه، وذلك في النصف من شعبان، فمن بين قارئ يقرأ، وقاص يقص، ونادب يندب، وقائل يقول المراثي، فقلت له: نعم جعلت فداك قد شهدت بعض ما تصف، فقال: الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا، ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدونا من يطعن عليهم .. »(٧)
وهذه الروايات وأضرابها تبلغ حد الاستفاضة والكثرة البالغة، وأن كان بعضها مناسب تحت عنوان استحباب البكاء إلا أنها نافعة في المقام من حيث الكشف التاريخي عن عراقة المآتم الحسينية وجذورها الضاربة في القرون الثلاثة الأولى فضلاً عن مشروعيتها واستحبابها كما هو ظاهر الروايات المتقدمة، وبهذا يتضح زيف المقولة التي تشير أن تاريخية المآتم بدأت أيام البويهيين، نعم أن الدولة البويهية جعلتها بشكل رسمي في الدولة وفتحت باب الحرية للشيعة لممارسة شعائرهم وطقوسهم بالطريقة التي يريدونها بعد أن كان التعتيم والتكتم هو الغالب في كل السنين الماضية، وإلا فالشعائر الحسينية وتجديد العزاء لآل بيت النبوة كان قبل ذلك، فهو مما قامت عليه سيرة التشيع وسار عليه إجماع السلف الصالح قاطبة الذي أخذوه عن أئمة الهدى خلفاً عن سلف، ولولا تلك البيانات المنيرة والهادية لما قام لهم عمود، ولا اخضر لهم عود، وقد عُرف أن يوم العاشر من شهر محرم هو ذكرى تلك الفاجعة العظيمة، فقد كانت أيام شهادتهم (عليهم السلام) هي أيام العزاء والمواساة وفقاً لما سنّه لهم أهل بيت العصمة والطهارة .
وبهذا قرر الشيخ المفيد هذا المعنى بوضوح، والشيخ المفيد عليه الرحمة والرضوان ممن عاصر تلك الفترة البويهية فلم يشر لا من قريب ولا بعيد لمقولة تاريخية الشعائر جاءت بعهد آل بويه، وقد تقدم الكلام سابقاً عنها الذي اتضح أنها تأسست بروايات الصادقين عليهم السلام ،والذي أخذت طابع المشروعية ببركة جهودهم وعقدهم لها
قال :« وفي اليوم العاشر منه [أي شهر محرم] مقتل سيدنا أبي عبد الله الحسين عليه السلام من سنة إحدى وستين من الهجرة، وهو يوم يتجدد فيه أحزان آل محمد عليهم السلام وشيعتهم، وجاءت الرواية عن الصادقين عليهم السلام باجتناب الملاذ، وإقامة سنن المصائب، والامساك عن الطعام والشراب إلى أن تزول الشمس، والتغذي بعد ذلك بما يتغذى به أصحاب أهل المصائب، كالألبان وما أشبهها دون الملذ من الطعام والشراب ..»(٨)
وبهذا يتضح بشكل جلي قيمة التهافت التي تحملها نقولات ابن كثير وأضرابه ممن هم متأخر عن الواقعة بعدة قرون، والأنصاف أن رواية ابن كثير لا تثبت بنفسها لحظة بدء العزاء المعروف لدى الشيعة فلا يستفاد منها دعوى التاريخية المزعومة، غاية ما هنالك تثبت وجود مراسيم الشعائر الحسينية في الدولة البويهية، ومن الواضح هذا شيء وتاريخ الشعائر شيء آخر - وقد مر بحثها بصرف النظر عن الأبعاد السياسية للدولة البويهية والتحولات التاريخية التي مرت بها، فللبويهيين خدماتهم الكبيرة التي لا تنكر للتشيع، كما أن سقوطهم وسيطرة خصومهم السلاجقة كان وجهاً آخر من المأساة في تاريخ التشيع .
_____________________
١- البداية والنهاية ج١١- ص ٨٨
٢- بحث مخطوط لكاتب السطور
٣- تاريخ الطبري في حوادث سنة ٢٣٦
٤-تاريخ الخلفاء ص٣٤٦
٥- أعيان الشيعة ج١- ص ٥٨٥
٦- كامل الزيارات باب (٣٣) ص٢٠٨
٧- بحار الأنوار ج٩٨- ص٧٢
٨-مسار الشيعة ص٢٥
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat