بين خلجات رصيف الأزمنة، يستقر الكثير من المثير الذي لم تلمسه كلمة ولم تستفزه عين. أصوات طرق كأنها نبض قلب الماضي الذي يستفز صمت الأيام... وأنامل نحتت ملامح للحظات خلت إلا من إبداعها، ومن عبير عرق صناعها الذين ألفوا خطوط جبينها البرونزي ومن أقدم أولئك الصناع:
الحاج ياس خضير عباس الذي حدثنا عن مهنه الصفارة:
--- الصفارة هي من المهن القديمة التي عرفت منذ عصور. وكان المجتمع يعتمد عليها في الكثير من حاجياته ومستلزماته المنزلية. وعمل في هذه المهنة جدي الحاج عباس عزيز بداية القرن العشرين. وكذلك والدي الذي كان محله في سوق ما بين الحرمين، قبل إزالته. وقد عملت مع أبي وأنا في عمر سبع سنوات. ومن ثم انتقلت إلى هذا المحل منذ سنة 61 م. وتجلب مادة النحاس الأحمر (الصفر) من بغداد على شكل طبقات ذات مقاييس مختلفة. ونحن نقوم بتقطيعها وصناعتها حسب الطلب، وهي في الأصل استيراد من دول أخرى مثل الهند وألمانيا. ومعظم الإنتاج الذي نقوم بصناعته، هي القدور بأنواعها مثل قدور (العرابي) الصغيرة نوعا ما، وقدور (القزان)، وأنواع أخرى التي تستخدم في الغالب للولائم الحسينية. أما الأدوات المنزلية مثل الملاعق و(الصواني) والأباريق، كنا نتفنن في صنعها وجميعها من مادة (الصفر). وأنا اليوم في الستين من عمري، ولازلت اعمل مع أولادي في هذه المهنة، إضافة إلى أبناء عمومتي فهي مهنة العائلة.
صدى الروضتين: الصفارة بين الأمس واليوم ؟
لم نكن ننقطع عن العمل سابقا وذالك لكثرة الإقبال على البضائع التي تنتج من الصفر حيث كانت القبائل البدوية تقبل على شراء القدور إضافة إلى أصحاب المواكب والهيئات الحسينية والبيوت التي كانت تفضل الأواني المصنوعة من الصفر لمتانتها حيث كانت هذه المنتجات تحتل المرتبة الأولى في البيت العراقي عموما والكر بلائي خصوصا ولي ذكريات جميلة مع هذه المهنة فقد تألفت يداي مع جميع الأدوات مثل المطرقة والسندان والسمبة حتى أحسها أصبحت جزء مني بعد هذا العمر الطويل أما اليوم وبعد دخول الأواني المستوردة و الفافون والبلاستك ضمرت هذه المهنة وشارفت على الانقراض وبسبب غلاء مادة الصفر فأصبح القدر يكلف مليون دينار بعد أن كان يكلف عشرين دينار في الستينات ولقلة الطلب عزف الكثير من التجار عن استيراد مادة الصفر مما أدى إلى ارتفاع سعرها وهذه المهنة سائرة نحو الانقراض أن لم تنقرض أصلا
وأنا أفتخر لأنني مع أبي قمنا بعمل عدد من الطابوقات النحاسية لقبة أبي الفضل (ع) ولقبة مسلم ابن عقيل(ع) وبعض التحف من أباريق وقدور قمنا بإضفاء لمستنا عليها بشكل مميز إضافتا إلى صناعتنا لعدد من الصواري التي يرفع عليها اسم الله فوق القبة للكثير من الجوامع
...... واليوم أعيش لحظات وداع مهنة العمر إلى الأبد ..
-- قبل أن تذرف الدموع لملمنا أسئلتنا ورحلنا مكتفين بالكلمة الأخيرة أودع مهنتي إلى الأبد...
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat