البكاء صورة من يوم الأربعين .
إيزابيل بنيامين ماما اشوري
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
وادي البكاء :
((طوبى للساكنين في بيتك، أبداً يُسبحونك.سلاه. طوبي لأناسٍ عزهم بك. طُرق بيتك في قلوبهم.عابرين في وادي البكاء ــ ببكة مباركاــ يُصيرونهُ ينبوعا)).(1)
قبل ان يخلق الرب الخلق كان اسم هذا الوادي في علمه وادي البكاء (بكة) مكان آمن لم تحدث فيه جريمة قتل او مأساة ولكن لمجرد ان يستذكر الانسان ذنوبه بين يدي ربه فإنه يجهش بالبكاء لم يزر احد من الانبياء هذا المكان إلا وكانت دموعه سابقة لخطواته. فماذا عن ذبيحة الرب في وادي كربلاء عند شاطئ الفرات هذا المكان الذي شهد ابشع مأساة ارتكبها الانسان اندفاعا وراء انانيته وحقده.
يعقوب بكى دهرا حتى عميت عينيه وهو لم يفقد سوى واحدا من اربعة عشر بنين وبنات : ((فأخذوا قميص يوسف وذبحوا تيسا وغمسوا القميص في الدم. وأرسلوا القميص إلى أبيهم . قال: قميص ابني! وحشً رديء أكلهُ، افترس يوسف افتراسا.فمزق يعقوب ثيابه، ووضع مسحا ، وناح على ابنه أياما كثيرة.وأبى أن يتعزى، وقال: إني أنزلُ إلى ابني نائحا. وبكى عليه أبوه)).(2)
أليس هو : من أضحك وابكى ؟ اذن لا تلُم في البكاء فالدمع لو لم يجري في الخد كان في القلب جمرا.
ماذا اقول على قلوب قست فأصبحت كالحجارة لا بل اشد قسوة ، ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة او اشد قسوة وان من الحجارة لما يتفجر منه الانهار وان منها لما يشقق فيخرج منه الماء وان منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون. عميت عينٌ لا تبكي لأن البكاء حالة هدوء للروح يتهلل الوجه نورا بعدها وتكون الروح مشرقة وان الفوز يمر عبر طريق الحزن الآلام ، يارب أنت أمرت بالبكاء وزرعت الدموع : ((لأن مشورتك لا يُدركها إنسانٌ. من يعبدك يُوقن أن حياتهُ إن انقضت بالمحن فستفوز بإكليلها، تُلقي السكينة بعد العاصفة، وبعد البكاء والنحيب تُفيضُ التهلل)). (3) لقد زرع الرب دموعا في مآقينا وجعلها سواقي تحفر اخاديد على صفحات الروح حتى تلين لها العاطفة ويرق القلب. ولم يغفل الرب ذكر الدموع في كتبه لا بل ان ذلك يجري على احب الخلق إليه انبيائه ورسوله فمنهم من بكى حتى ابيضت عيناه ومنهم من بكى حتى حفرت الدموع سواقي على خديه ، ألم تر إلى عالمنا المسيحي برمته يحتفل بمناسبة يوم شهادة يسوع ويوم قطع رأس يوحنا المعمدان. مجالس الفرح والرقص والسكر والعربدة التي يقوم بها اتباعنا المسيحيين وهذا معروف عنا في مجالسنا الدينية الغير قادرة على خلق المشاعر الاجتماعية تجاه الشهيد المظلوم. يوحنا الذي قُطع رأسه وأهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل في طشت من ذهب جعل القيصر يوم شهادته احتفالا عاما يهل ويستهل به فرحا يتزينون ويضربون الدفوف فرحا بيوم مقتله !.
الضحك والابتهاج يشبه الشهوة التي هي انغماس في اللذات وهو مميت للقلب ومشاعره وقتلٌ لأحاسيسه النبيلة، والبكاء حالة من الحب والتفاني تنطلق من القلب في اوج مشاعره الذي يؤجج الوجد والشوق لدى الحبيب وقد اخبر الرب وهو العليم بما يُصلح القلوب بأن البكاء والحزن يُصلحان القلب : (( الحُزن خيرٌ من الضحكِ، لأنهُ بكآبة الوجهِ يُصلِحُ القلبُ ــ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا ــ)). (4)
أن البكاء على العظماء والمقدسين امثال الحسين عليه مكارم الرب هذا البكاء يصون بقاء هذه الجذور العاطفية في النفوس ويصونها من الضعف والزوال ويؤجج عوامل الثأر ويحافظ على بقاء هذا الحق طريا. مثلا انا قرأت اثناء مروري على كتب التاريخ أن النبي محمد عليه بركات الرب عندما نظر إلى جثة عمه حمزة فلم ينظر إلى شيء كان أوجع لقلبه من ذلك فقال : لن اصاب بمثلك، ما وقفت موقفا أغيظ لي من هذا رحمة الله عليك. قال ابن مسعود : ما رأينا رسول الله باكيا أشد من بكائه على حمزة ، فقد وقف على جنازة عمه، (وانتحب وشهق حتى بلغ به الغشي وهو يقول ، يا عم رسول الله واسد الله وأسد رسوله يا حمزة يا فاعل الخيرات ، يا حمزة يا كاشف الكربات يا مانع عن وجه رسول الله ) . وهذه هي نفس المراثي التي يقوم بها المحزونون تأسيا بنبيهم المقدس.ألم يبك الأنبياء وعمى بعضهم من البكاء : ((كلت عيني من الحزن ــ ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم )).(5)
ولكن أعداء البكاء ممن قست قلوبهم لا يعجبهم ذلك فهم يعرفون ان البكاء حالة تصريف طبيعية للطاقة التي لو حُبست لاصبحت بركانا يأتي على كل شيء وهذه حكمت الرب في خلقه لحالة البكاء . ولكن أبا سفيان وامثاله ممن منع البكاء وهدد بالقتل كل من يبكي على قتلاه لا يروق البكاء لهم. وآخر قطع الشجرة التي تستضل بها ابنة محمد للبكاء على ابيها وكان يخفق ظهور الباكين (بدرته) حتى يوجعهم ويضرب يمينا وشمالا لا لسبب إلا لأن البكاء لا يعجبه لأن قلبه قسى فكان كالحجارة او اشد قسوة.
فهنا خطان. خطُ يُمثل كل الأنبياء الذي بكوا من آدم وحتى نبي الرحمة المقدس محمد عليه المكارم ، وخط يُمثل ابا سفيان ومن لف لفه ممن اوجع ظهور النساء لبكائهن على اعزائهن. ومن هذين الخطين تخرجت مدرستان واحدةٌ تُمثل خط محمد وآخر يُمثل مدرسة ابي سفيان وعمر وغيره ولا زالت هاتان المدرستان تؤسسان لثقافتين واحدة تمنع من البكاء وتقتل كل من يبكي أو يحزن، وأخرى ترى البكاء حالة طبيعية قام بها الأنبياء ومارسها اعظم انسان عاش على الأرض وهم يتأسون به.ويؤمنون بأن الله هو خالق البكاء لهذه الغاية ولم يخلق الضحك وحده فقال : هو الذي اضحك وابكى ، ثم امر الناس أن : يضحكوا قليلا ويبكوا كثيرا. فجعل في الضحك موت القلوب وفي البكاء حياتها ولذلك جعل الموت مقابل الضحك فقال اضحك وامات ، وابكى واحيى . هو الذي اضحك وابكى ، وامات واحيى.
والبكاء على الحسين لا يتعدى هذه الحالة فلو كان جده محمد حاضرا ورآه على تلك الحالة مقطعا تحت الشمس تسفي عيه الرمال وحوله احفاده مجندلين بلا رؤوس فماذا يصنع هذا النبي الذي بُعث رحمة للعالمين ؟ هل يتهلل وجهه فرحا ام يذوب كمدا وتتفجر طاقات عيونه الجميلة بكاءً على ولده الذي قُطّعت اوصاله بتلك الطريقة الوحشية التي لا تقوم بها إلا عُسلان الفلوات ووحوش الغابات.
فإذا كان العالم كله يحتفل في كل عام بسباق الماراثون (6) لأن(جنديا نقل خبر (انتصار روما الوثنية على الفرس عباد النار) ثم مات بعد نقله للخبر فاتخذ العالم كله ذلك اليوم محل مجد واحتفال تُصرف وتُنفق عليه المليارات وتتنافس البلدان من اجل احياء ذلك اليوم. ولكن عندما تُحيي امة يوم (انتصار الدم على السيف) في كربلاء والذي ضرب فيه الحسين اروع الأمثلة في التضحية والفداء من اجل القيم والمبادئ والمُثل العليا لدينه وامته فإن من يُحيي هذا اليوم يتعرض لضروب من المحن والمصائب . مع ان الرب اخبرنا في نبوئات كتابه المقدس بانه هو الذي يأتي بهؤلاء المعزين الباكين مشيا على اقدامهم من كل انحاء العالم لإحياء هذا اليوم الرباني المقدس ولم يعذر حتى المعاقين من ذلك لانه اختبار الحب والولاء : ((هانذا آتي بهم من أرض الشمال، وأجمعهم من أطراف الأرض. بينهم الأعمى والأعرج، والُحبلى والماخض معا. جمعُ عظيم يرجعُ إلى هنا. بالبكاء يأتون، وبالتضرعات أقودهم. أسيّرهم إلى أنهار ماء في طريق مُستقيمة لا يعثرون فيها)). (7)
المصادر والتوضيحات ــــــــــــــــ
1-سفر المزامير 84: 6 .آل عمران : 96.
2- سفر التكوين 37: 31
3- سفر طوبيا 3: 22.
4- سفر الجامعة 7: 3 و سورة التوبة : 82.
5- في سنة (490) قبل الميلاد، وقعت معركة بين اليونانيين والفرس في منطقة ماراثون باليونان، انتصر اليونانيين على الفرس، وبعد الانتصار خرج شخص من المقاتلين اليونانيين اسمه فيديبيدس جرى مسافة قدرها 40 كيلومتر من ماراثون إلى أثينا ليخبر أهلها أنهم انتصروا على الفرس وبعد أن أخبرهم بالموضوع وقع ميتا من التعب والإرهاق. وقد سمي سباق الماراثون بهذا الاسم تيمنا بهذا العسكري الذي قطع كل هذه المسافة من أجل أن يخبرهم أنهم انتصروا على الفرس.
6- سفر أيوب 17: 7 و سورة يوسف : 84
7- سفر إرمياء 31 : 9 .
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
إيزابيل بنيامين ماما اشوري


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat