كانت كربلاء، وما زالت، ميزان القلوب… من وقف عند ضريحها عرف معنى الثبات، ومن سار نحوها في زمن الخوف تخرّج من مدرسة الحسين عليه السلام.
تحت كلّ عباءةٍ هناك حكاية، وفي كلّ دمعةٍ ذكرى من زمنٍ كان فيه اسم الحسين يُهمس خفيةً، لا يُقال جهرًا، لأن الجهر كان يكلّف الحياة.
لكنّ العشق لا يعرف الخوف، ومن ذاق حبّ الحسين لا يرجع عنه أبدًا، مهما اشتدّ الطغيان.
كنا في الزيارة…
أنا وأختي.
كانت يداها ترتجفان وهي تمسك بيدي الصغيرة، لكن عينيها كانتا تضيئان باليقين. كنت أرى فيهما حبًّا أكبر من الخوف، وصبرًا يشبه الصبر الذي سُقي من كربلاء نفسها.
كنا نمشي بخطواتٍ متعبة، نقطع الطريق بين نقاط التفتيش، والجنود يراقبون الزائرين كأنهم يطاردون حلماً لا يريدون أن يولد.
وحين دخلنا صحن الإمام الحسين عليه السلام، سكنت الأصوات،
وغمرنا سكونٌ غريب… كأنّ الأرض هناك تتنفس خشوعًا.
جلسنا نصلي على التربة، تلك التربة التي علّمت الناس كيف يرفعون جباههم للسماء دون خوف.
كانت أختي تقرأ الدعاء بصوتٍ خافت، وأنا أكرر خلفها كلماتٍ لا أفهم معناها تمامًا، لكن قلبي كان يفهمها، لأنها كانت تلامس شيئًا عميقًا بداخلي.
وفجأة، انكسر الصمت.
دخل رجال الأمن، يحملون الغضب في عيونهم، والخوف في قلوب الناس.
صرخوا بصوتٍ ملأ المكان:
“الزيارة ممنوعة! قوموا جميعًا!”
ارتجف قلبي الصغير،
التصقت بأختي كعصفورٍ خائف من المطر،
لكنها كانت أكثر ثباتًا من الجبل.
مدّت عباءتها السوداء، وسحبتني إليها،
وأخفتني تحتها كما تخفي الأمّ طفلها من سيفٍ مسلول.
سمعتُ همسها يرتجف:
“لا تتحركي يا صغيرة… الحسين معنا.”
كانت أنفاسي تختنق تحت العباءة، وصوت الجنود يقترب،
خطواتهم تدوس على السجاد، وأحذيتهم تترك أثر الخوف في القلوب.
مرّ أحدهم بقربنا، كدت أسمع أنفاسه، ثم مضى.
ظلّت أختي ساكنة لا تتحرك، وصوت قلبها يطرق أذني كأنه دعاء.
كانت التربة ما زالت بيننا، تفوح بعطرها،
كأنها تشهد على الصبر، وتقول لنا:
“من احتمى باسم الحسين، لا يُخذل أبدًا.”
مضت الدقائق كأنها دهور، حتى ابتعدوا أخيرًا.
رفعت أختي عباءتها ببطء،
خرج الضوء من تحتها مثل فجرٍ بعد ليلٍ طويل.
نظرت إليّ، وفي عينيها دمعة فخر، وقالت بصوتٍ حانٍ:
“انتهى الخطر يا صغيرة… لكننا سنبقى نعود إليه مهما منعونا، لأن حبّ الحسين لا يُطفأ.”
ومنذ ذلك اليوم، فهمت أن الزيارة ليست مجرّد طريقٍ يُقطع،
بل عهدٌ يُجدّد في كل خطوة.
فمن يمشي نحو كربلاء لا يبحث عن مكان،
بل عن معنى…
عن روحٍ تجلّت في صبر زينب، وفي دم الحسين،
وفي عباءة أختٍ خبّأت أختها الصغيرة كي لا يُؤخذ منها نور الزيارة.
وها أنا اليوم، كلما دخلت صحنه الشريف،
أشعر بتلك العباءة ما زالت تظلّلني،
وأسمع صوت أختي يهمس في داخلي:
“الحسين لا يُزار فقط بالأقدام، بل بالثبات والإيمان.”
وسلامٌ على كلّ من مشى خائفًا ولم يتراجع،
وسلامٌ على كلّ من أخفى ولاءه في قلبه حتى نجت روحه،
وسلامٌ على عباءةٍ صارت رمزًا لزمنٍ لم يقدر أن يُطفئ نور كربلاء،
ولا أن يمنع الناس من قول:
“لبّيك ياحسين "
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat