كيف يواسي الإسلام الإنسان؟
زينب ال سيف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
زينب ال سيف

كرّم الله الإنسان بالعقل، وبالقدرة على الاختيار والبحث والمعرفة
وكرّمنا نحن بالإيمان به، وبمعرفة أوصيائه، فزادنا بذلك تكريمًا ورفعة وعلوًّا، فمهما بلغت رتبة الإنسان من المعرفة والعلم، سيبقى محدودًا إدراكًا بالنسبة للعوالم الأخرى، ولن يستطيع بكماله المادي أن يتعدّى حواجز هذا العالم المادّي الصرف.
فقد يسعى ويبني ويعمّر وهو منصبّ الإدراك على هذا العالم الدنيوي، تاركًا وراء ظهره أو جاهلًا بأبعاد الوجود الأكثر عُمقًا؛ فلا يكسب في ذلك إلا قدر ما سعى إليه
لكنّ المؤمن حين يسعى، يعلمُ أنّ سعيه ليس مؤثرًا في هذا العالم فحسب، بل هو سعي متكامل، وذو مراحل
فنجاحه له معايير وأبعاد مختلفة عن الكافر بالحياة الأخرى
وفشله له معايير وأبعاد مختلفة، فقد يكون الفشل عند المؤمن نجاحًا عند غيره، وذلك حينما يرى أنّ كسبه هو مرهون بخسارته لرضا الله وتوفيقه وعنايته.
وفي المقابل، قد يكون النجاح عند المؤمن فشلاً بالنسبة إلى غير المؤمن
وهناك مواضع كثيرة يكسبُ فيها المؤمن حينما يخسر غيره، بل نستطيع القول أنّ المؤمن لا يواجه خسارةً قطّ في الحياة الدنيا، فهو يعلم أنّها دارٌ للعمل، لا للحصاد، وهذا المفهوم قد عبر عنه القرآن في مواضع عدّة، وبأساليب مختلفة، حيث يقول الله عزّوجل: "لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتاكم" الحديد - 23
فلا ينظر الإسلام للدّنيا على أنها رهانُ الربح والخسارة، وأنها فرصة الإنسان الوحيدة للكسب
بل يرى أنّها -على العكس تمامًا- لا تقدّم ولا تؤخر شيئًا بكلّ ما فيها من خيرات وخسارات، لذلك نرى المؤمن مطمئنّ البال دائمًا، لا يلهث وراء المكاسب الفانية، بل أنّهُ واثقٌ من حكمة الله وتدبيره للأمور، وأنّ كل ما يحدث له إنما هو صلاح وخيرة ومقدّمة لنعم جزيلة، فـ "لو كُشِفَ لنا الغطاء، لما اخترنا غير الّذي اختاره الله لنا"
"لو علمتم كيف الله يدبر أُموركم لذابت قلوبكم من محبته"
ويقول الله في كتابه: "وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" - البقرة، 216
فحتى حين يُبتلى ظاهريًا، فإنّه لا يجزع، ولا يستسلم للحزن واليأس والإحباط.
وكيف يجزعُ من يؤمن بتدبير الله وحكمته، وينتظر جزيل جزائه وكرمه في كل أحواله، ويعلم بفناء هذه الدّنيا وحقارتها عند الله في مقابل خزائنه التي لا تنفذ!
على عكس الكافر الذي لا يتوانى عن دفع الغالي والرخيص في سبيل الحصول على مبتغاه
وقد يضحّي بنفسه ومبادئه وأخلاقياته ليحوز على تلك اللذّة الفانية والمكاسب المؤقتة، فهو يظنّ بأن هذه الحياة هي سبيله الوحيد للسعادة، وأنّ غدًا مآله إلى فناءٍ دائم.
يقول الله عزّوجل: "مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ" الشورى - آية 20
ويقول النبيﷺ مؤكدًا هذه الحقيقة، حقيقة الدّنيا الزائلة والزائفة: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء»
هذه الرؤية الإسلاميّة- الإيمانية تخلق لنا حالة من التسليم والرضا بالقضاء والقدر، وهي بمثابة مواساة، بل وعد إلهيّ حتمي بجزاء المؤمنين، ونصرة المظلومين، وعوض الفاقدين.
وهو -عزّ وجلّ- يطمئن المؤمن، ويؤكد أنّ ذلك الجزاء الأخروي أوفر، وأكبر، وأعلى مقامًا، فهو بلا شكّ دائمٌ من حيث الوجود، وهو كامل لا تشوبه شائبة ولا منقصة.
فإن كسب الإنسان في هذه الدّنيا مرهون بحرمانه وخسارته لأمور أخرى، ولم يأخذ منها شيئًا إلا كان محفوفًا بالمنغّصات والنقائص.
لذا فقد كفل الله للإنسان المؤمن فوزه، ولم يحمّله همّ الخسارة المؤقتة في هذه الدّنيا، ولا همّ الخسارة الدائمة في الحياة الأخرى!
فهو معه، يحرسه ويرعاه في هذه الدنيا، وله أيدٍ ولطائف خفية يعرفها المؤمن ويأنس بها، فـمَن كان مع الله كان الله معه، وهل هناكَ دلال وحبّ أكثر من معيّة الله المقتدر الكامل لعبده الضعيف الناقص؟
بل إنّ الله وعده بجزاءٍ عاجل- ولو كان جزئيًا- في الحياة الدنيا، يقول عزّوجل: "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)"- سورة الشّرح
وفي تكرار وعده الإلهيّ أسرار، فتأمّل!
بينما حُرِمَ الكافر تمام اللذة في الدنيا، وحمّل مؤونة الصبر على مرارتها وهمّ خسارتها،
وغدًا لا يدري ما هو نصيبه ولا ما هو منتهاه!
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat