العراق تجربة العالم للقرن الحادي والعشرين .
د . عبد علي سفيح الطائي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . عبد علي سفيح الطائي

فبعد أن كان القرن العشرون مسرحا لتحولات كبرى في مفهوم الدولة، من كيان سياسي تقليدي إلى دولة اجتماعية تقوم على التعددية والانفتاح والديمقراطية، جاء العراق ليطرح سؤالًا أكثر تعقيدًا: كيف يمكن بناء نظام ديمقراطي في مجتمع متعدد الأديان والطوائف والأعراق من دون أن يتحول هذا التعدد إلى نزعة استبداد جديدة؟
لقد مثّل القرن العشرون لحظة توازن هش بين الشيوعية والرأسمالية، وبين نزعات استبداد عنصري وفكري من جهة، وبدايات الديمقراطية المفتوحة من جهة أخرى. لكن القرن الجديد ألقى بالعراق في قلب التجربة. فعندما غزت الولايات المتحدة العراق عام 2003، لم تكن تبحث فقط عن إسقاط نظام صدام حسين، بل أرادت أن تخوض اختبارًا عالميًا في بناء نظام اجتماعي جديد يصلح أن يكون نموذجًا يُحتذى. غير أن النتائج جاءت معاكسة تمامًا. أميركا فشلت سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا وأخلاقيًا في إدارتها للاحتلال. كان سؤالها الكبير موجَّهً إلى أوروبا، وخصوصًا فرنسا التي تعرف تجربة لبنان جيدًا: كيف يمكن تأسيس دولة اجتماعية بأدوات ديمقراطية في بلد يقوم على مكونات طائفية وعرقية متباينة، بينما الديمقراطية نفسها تسيّس هذه المكونات وتجعلها تتصارع على السلطة؟ في لبنان تحولت الطوائف إلى عائلات حاكمة ابتعدت عن قواعدها الشعبية، وتحوّل الصراع من طائفي إلى طبقي مع اندلاع الحرب الأهلية. وأرادت أميركا أن تتجنب تكرار التجربة في العراق، لكنها اصطدمت بواقع أكثر تعقيدًا.
قبل السقوط أقامت واشنطن علاقات واسعة مع القوى السياسية المعارضة، وعقدت مؤتمر لندن عام 2002 بمشاركة معظم الأطراف. لكن ما غاب عن الأميركيين كان أهم قوتين في العراق: المرجعية الدينية الشيعية المتمثلة بالسيد السيستاني، والتيار الصدري المتجذر في الشارع. لم يكن لهاتين القوتين أي علاقة بالمؤتمرات ولا بتاريخ التعامل مع الخارج، لكنهما كانتا تملكان ثقلًا شعبيًا لا يمكن تجاوزه. وهكذا تحولت المسألة من مشكلة سياسية إلى مشكلة اجتماعية لم يعرف الأميركيون كيف يتعاملون معها.
اليوم يظهر أن الشيعة، رغم كل ما قيل، هم نواة الدولة الاجتماعية، ونظامها الديمقراطي، يشكّلون "صمام أمان" ضد نزعة الاستبداد الطائفي أو العرقي، لأن ثقلهم لا يقوم على الإقصاء بل على الموازنة بين المكونات. لكن المشكلة الكبرى لا تزال كامنة في الثقافة السياسية العربية ذاتها، حيث يتغذى العقل العربي الجمعي على الاستبداد بالسلطة والهيمنة الفردية أو العائلية. هذه البنية التاريخية تجعل من الصعب استيعاب فكرة الدولة الاجتماعية التعددية التي يتطلبها العصر.
العراق إذن ليس مجرد بلد خرج من حرب واحتلال ودكتاتورية، بل هو مختبر عالمي مفتوح. فالتجربة العراقية تضع العالم أمام سؤال لم يحسم بعد: هل يمكن أن يُبني دولة بنظام اجتماعي جديد يتجاوز نزعات الاستبداد الديني والعرقي في بيئة مركبة؟ الجواب ما زال ما زال بعيد عن الهدف، لكن المؤكد أن مستقبل التعددية في العالم العربي، وربما أبعد من العالم العربي، سيتأثر إلى حد بعيد بما ستؤول إليه هذه التجربة.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat