لغز خراسان: من خبز الكاموت الى حضارة الفكر
د . عبد علي سفيح الطائي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . عبد علي سفيح الطائي

لم أكن أتوقع أن يقودني اعلان صغير على واجهة مخبز فرنسي الى رحلة في قلب التاريخ. كان الاعلان بسيطا: ٌ خبز من طحين خراسان-كاموت- 13 يورو الكيلو غرام . توقفت أمام كلمة خراسان، كيف لأسم جغرافي قديم موغل في ذاكرة الشرق، أن يحضر فجأة في شارع أوربي مربوطا برغيف خبز؟
هذا العنوان دفع فضولي بالبحث عن خراسان، فوجدتها كلمة مركبة من (خر) وتعني الشمس، و(اسان ) وتعني المشرق. كانت سابقا تسمى خراسان الكبرى وهي مقاطعة من الدولة الإسلامية حدودها ما يلي العراق، وآخر حدودها ما يلي الهند.
دفعني كذلك ذلك الفضول الى البحث عن هذا الطحين الغامض، فوجدت أنه يستخرج من قمح قديم يعرف ياسم قمح خراسان، أو كاموت، بلغة الأسواق الحديثة، يقال أن هذا القمح الخراساني أصله من ايران، ظهر قبل 5000 سنة في بلاد وادي الرافدين حسب المصادر التاريخية، ويتميز هذا الخبز في غناءه بالمعادن والبروتين والغلوتين القابل للهضم. وأنه يرمز الى العودة للأصول. لكن سرعان ما اتسع أفق السؤال: هل خراسان مجرد أرض أنبتت القمح، أم أرض أنبتت العقول أيضا؟ قد تكون البداية مجرد قمح، فالحضارات كلها ولدت من حبة القمح، من رغيف جمع الناس حول مائدة، ومن أرض أصبحت مستقرة.
وبعد تعمقي بالبحث، وجدت هذا الإقليم عبارة عن تأريخ معجزة يحمل أسرار كثيرة، وموطن لأبرز العلماء لأنه إرث تاريخي وثقافي وعلمي.
ولد من رحم هذا الإقليم الصحاح الستة: صحيح البخاري ومسلم، وسنن الترمذي والنسائي وابي داود وابن ماجة. جل هذه الصحاح ولدت في القرن التاسع ميلادي وخلال فترة زمنية 21 سنة..
السؤال هو: ما هو هذا التصادف العجيب في الزمان والمكان؟.
كذلك ولد من رحم خراسان فلاسفة وعلماء وقادة سياسيين منهم: الطبري، والزمخشري، والفارابي، وإبن سينا، والخوارزمي، وعمر الخيام، وجلال الدين الرومي، وابا مسلم الخراساني، ويحيى البرمكي..
كذلك ولد من رحم خراسان في بداية القرن العشرين مدرسة فلسفية تسمى مدرسة التفكيك، وهذه المدرسة تختلف عن منهج التفكيك في فرنسا الذي اسسه الفيلسوف جاك دريدا في منتصف القرن العشرين. مذهب التفكيك في خراسان هو جواب عن سؤال المنهج الذي يعتبر اليوم حسب الكاتب حيدر حب الله، أهم أسئلة الثقافة الدينية وأصعبها وأشقها على الباحث والكاتب. التفكيك هنا هو فصل المنهج الفلسفي والروحاني العرفاني عن المنهج الديني. وحسب الكاتب حيدر حب الله، يعد من أبرز وجوه هذه المدرسة هم السيد حسين فضل الله، ومهدي شمس الدين، والسيد السبزواري، رفضوا دخول الفلسفة والتصوف في العقيدة.
ممكن القول بأن خراسان ليست مجرد جغرافيا اندثرت، أو حدود طمست، بل هي رمز لوحدة، المادة والمعنى، العيش والفكر، الزراعة والثورة، القمح والفلسفة.
تبقى خراسان لغز يتطلب فك شفراته. لغز يبدأ من رغيف خبز في باريس، لكنه ينتهي في مكتبة ابن سينا، وفي أشعار الرومي، وفي ثورات التاريخ..
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat