إلى خطباء المنبر الحسيني الاجلاء...مع التقدير
د . حميد حسون المسعودي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . حميد حسون المسعودي

يقول الشاعر حافظ ابراهيم عن وضع اللغة العربية في العصور المتأخرة:
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة
مشكَّلة الألوان مختلفــــــــــــاتِ
توطئة:
إن من الانصاف القول إن المنبر الحسيني لم يُسهم في إلقاء الضوء على القضية الحسينية، مبدأه الأول وغايته فحسب، بل تعدّاها إلى تنوير المتلقي بشأن الأمور الاسلامية من فقهٍ وتاريخٍ وشؤونٍ عامة أخرى، كانت ستبقى طي النسيان لو لم يتطرق إليها خطباء ذلك المنبر.
فقد حثَّ الأئمةُ المعصومون الأطهار المؤمنين على ذكر قضية مظلوميتهم في مجالسهم. إذ ورد عن الامامين الصادق والرضا (عليهما السلام) قولهما: (رحم الله من أحيا أمرنا). فمن وحي ذلك الذكر التمسك بالتعاليم التي سار على نهجها أهل البيت(عليهم السلام) في حياتهم، ووسيلة ذلك نشر علومهم. ولا بد لمن يقوم بهذا الأمر من أن يذكر ما تعرَّضَ له أهلُ البيت من ظلم وجور، لاستلهام العبر منه والاستنارة بأخلاقهم وقيمهم في العبادات والمعاملات. ومآل ذلك نشرُ علوم الدين الحنيف.
قال عبد السلام بن صالح الهروي (رضوان الله عليه) لما سمع الامام الرضا (عليه السلام) يقول: (أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا)، قلت: (يا ابن رسول الله وكيف يُحيا أمرُكم؟) قال: (أن تتعلموا علومنا وتعلموها للناس، فإنَّ الناس لو علموا محاسن كلامنا، لأتبعونا).
في مفالتنا التالية، سنقتصر على ذكر ما يحدث من أخطاء لغوية في ما يقدمه الخطباء الأجلاء. ولن نتعدى ذلك لما يحدث من أمور أخرى كالتصورات الخاطئة في نقل الأخبار أو الأخبار الموضوعة أو المعاني المستقاة خطاً وغير ذلك.
اللغة العربية وكيفية استخدامها على المنبر:
لا شك أن اتقان اللغة العربية أمر لا سبيل إليه، فهو غير متيسر في زماننا الحاضر إلا لمن آتاه الله نصيبا من الموهبة والفطنة واللباقة. فهنالك اليوم أشخاص معدودون ممن وهبهم الله تلك الموهبة الجليلة. وحتى هؤلاء قد يلحنون أحيانا.
ونحن والحالة هذه لسنا بصدد تصوير أمر التمكن من اللغة على أنه متعسِّر. وإنما نحاول أن نثبّت حقيقة أن الحل يكمن في استخدام ما يسمى اللغة الوسيطة لغةً للمنبر الحسيني.
فمما لا يخفى على القارئ الكريم أن هنالك ثلاثة أنواع من اللغة العربية: اللغة العربية الفصحى واللغة العربية الفصيحة واللغة العربية الوسيطة. أما الفصحى أو المعيارية التي نزل بها القرآن الكريم، فهي اللغة الخالية من اللحن. وأما الفصيحة فهي التي تشتمل، من بين مواصفات أخرى، على الأساليب البلاغية. وأما الوسيطة فهي القريبة من العامية فهي تَتَقبل أكثر الملحون وتختفي فيها العلامات الاعرابية وتعبر عن المثنى بالجمع وغير ذلك مما يسهِّل استخدامَها لدى الناس العاديين الذين ألِفوا العامية وتربَّوا عليها.
فمن نافلة القول يمكن للخطيب الذي لا يتمكَّنُ من اللغة العربية الفصحى أو الفصيحة ويجد في استخدامها إحراجا، اللجوء إلى اللغة الوسيطة، لكن مع بعض الشروط، لا سيما ما يخص الآيات القرآنية. فلا ينبغي أن تُقرأ الآيات الكريمة دون حركات، أو بحركات تغيِّرُ المعنى. والمثال الشائع على ذلك الآية الكريمة: (إنما يخشى اللهَ من عبادِهِ العلماءُ)(فاطر: 28). كما يجب مراعاة قراءة الأحاديث النبوية وأحاديث أهل البيت(عليهم السلام) والأبيات الشعرية والحِكَم ومثيلاتها.
وللخطيب أن يتدبَّر الأمر بالاستعانة بالنقال (الموبايل) أو كتابة الآية أو غيرها على ورقة ليستعينَ بها عند القراءة. وذلك أمر مألوف حتى لدى كبار الخطباء.
ولابد من أن نذكر أن الخطيب الذي يُنهي دورةٌ في التلاوة سيكون متمكنا كثيرا في أمر قراءة الآيات الكريمة وما فيها من مدود ووقفات وأنغام وغير ذلك. وهذه الدورات بحمد الله متوفرة في كل مكان وزمان حاليا.
بعض الصور اللغوية الخاطئة:
- أخطاء على مستوى الحروف والكلمات:
- لفظ الحروف الشمسية والقمرية: كما هو معروف، تنقسم حروف اللغة العربية من حيث لفظها بعد (ال) التعريف إلى قسمين: الحروف القمرية، وهي التي تلفظ قبلها اللام(لام أل العريف). وتجمعها العبارة(ابغِ حجك وخف عقيمه). أما الحروف الشمسية، فهي التي تُشدد ولا يُلفظ معها اللام، أي أنها تُدغم فيه. وتجمعها العبارة الشعرية التالية:
طب ثم صل رحما تفز ضف ذا نعم
دع سوء ظن زر شريفا للــــــــكرم
والحال نرى بعض الخطباء لا يطبِّقون تلك القاعدة. عندما يلفظون عبارة(الطيبين الطاهرين)، يقولون (ا ل ط ي ب ي ن ا ل ط ا ه ر ي ن) والصحيح(ا ط ط ي ب ي ن ا ط ط ا ه ر ي ن) لأن حرف الطاء شمسي، فتُدغم اللام فيه، أي لا تظهر.
على أن حرف الجيم يشكِّل ظاهرة مستقلة في كثرة اللحن. فهنالك خطباء فطاحل لكنهم لا يتقنون لفظ حرف (الجيم). فيلفظون كلمة الجنة (اج ج ن ن ة) وصحيحها(ا ل ج ن ن ة)، لأن حرف الجيم حرف قمري، وليس شمسيا. فلا تُدغم اللام فيه.
- الأذان والآذان:
تُستخدم كلمة (الأذان) للإشارة إلى الدعوة للصلاة. بينما (الآذان) جمع (أذن) وهي حاسة السمع.
والحال يلفظ كثير من الخطباء كلمة(آذان) للإشارة إلى (الدعوة للصلاة).
- الآخَرين والآخِرين:
- تشير مفردة الآخَرين (بفتح الخاء) إلى الاختلاف والتنوع والمغايرة. بينما تشير مفردة الآخِرين(بكسر الخاء) إلى النهاية أو ضد الأول أو نقيضه.
ويتضحُ الفرق بين الاثنين في الآيتين 78 و82 من سورة الصافات المباركة: وتركنا عليه في الآخِرين(78) سلام على نوح في العالمين(79) إنا كذلك نجزي المحسنين(80) إنه من عبادنا المؤمنين(81) ثم أغرقنا الآخَرين(82).
لكن بعض الخطباء يقول: (من الأولين والآخَرين)(بفتح الخاء) والصحيح (من الأولين والآخِرين)(بكسر الخاء).
- التذكير والتأنيث:
تقتضي القاعدة النحّوية أن تُذَكَّرَ الأعداد (من واحد إلى عشرة) مع معدوداتها المؤنثة، وتُؤنَّث مع معدوداتها المذكّرة. فنقول مثلا، (للحسين -عليه السلام- خمس سنن من خمسة أنبياء). فجاء العدد(خمس) المذكر في هيأته مع المعدود (سنن) التي مفردها كلمة (سُنَّة) المؤنثة. كما جاء العدد(خمسة) المؤنث في هيأته مع المعدود المذكر(أنبياء) ومفردها كلمة(نبي) المذكرة.
ما يحصل لدى بعض الخطباء عكس ذلك. فمثلا يقولون (أربعة مناقب) والصحيح(أربع مناقب) لأن (مناقب) مفردها (منقبة) وهي مؤنثة. كما يقولون (ثلاث مواقف) والصحيح (ثلاثة مواقف) لأن (مواقف) مفردها (موقف) وهي مذكرة.
على أن الأمر ليس بهذه السهولة. فهو يعتمد على المفرد فيما لو كان مذكرا أو مؤنثا، مثل كلمة (السبل). فمفردها(سبيل) قد يكون مذكرا: (السبيل واضح)، أو مؤنثا: (السبيل واضحة).
- أحسنَ أو أحسنِ:
إذا سُبِق الممنوع من الصرف على صيغة (أفعل) للتفضيل بحرف جرٍّ فلهُ حالتان: الأولى إذا أضيف إلى اسمٍ بعدَه فيُجَرّ، مثل: (أليس الله بأحكمِ الحاكمين)(التين: 8). فـ(أحكم) صيغة تفضيل مسبوقة بحرف جر ومضافة إلى الحاكمين، فكُسِرَت. أما في الآية الكريمة (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسنَ منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا)، فلا تُكسر، بل تبقى ممنوعةٌ من الصرف، فتظهر في نهايتها الفتحة، وليس الكسرة.
للأسف غالبا ما يقرأها بعض الخطباء(بأحسنِ) مكسورة. والصحيح (بأحسنَ) وليس بأحسنِ لأنها أسم تفضيل غير مضاف.
- كلمة (غير) النافية:
تُضاف كلمة(غير) إلى النكرة (غير المعرفة بأل) المنفية عنها صفة معينة.
ولا أشهر من الآية الكريمة في سورة الفاتحة المباركة (صراط الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)(الفاتحة: 7).
والحال يقول بعض الخطباء (الغير متوقع) وصحيحه (غير المتوقع)، ويقولون(الغير مألوف) وصحيحه (غير المألوف)، وهكذا.
- وهناك مفردات أخرى تتغير معانيها حسب نطقها:
- المتوفّي(هو الله)=اسم فاعل، والمتوفى(الشخص المنتقل إلى جوار ربه)=اسم المفعول.
- سورة الأَنعام المباركة(ما يُنتفع به من الحيوانات) وليس الإنعام(المنّة والفضل من الله تعالى).
- استُشهد(مضى شهيدا في سبيل الله) و استَشهد(احتج بشيء أو طلب شهادة ما).
2. على مستوى العبارة والجملة:
- البسملة: يلحن بعض الخطباء، لا سيما المستجدين منهم، بلفظ نون الرحمن في البسملة راءً. فتخرج هكذا: بسم الله (ا ر ر ح م ا ر ر ح ي م). وصحيحها (ار ر ح م ا ن ر ر ح ي م).
- ثم يصلون على الرسول الكريم(صلى الله عليه واله) وعلى سبطه الحسين(عليه السلام) بالقول: (صلى الله عليك يا رسول الله....صلى الله عليك يا مولاي وابن مولاي يا أبا عبد الله...). وهنا يبدو الاحتفاء بالحسين(عليه السلام) أكثر من الاحتفاء بجده الكريم. ومن الأفضل القول: (صلى الله عليك يا مولاي يا رسول الله....صلى الله عليك يا مولاي وابن مولاي يا أبا عبد الله...) أو بأية صيغة أخرى تحفظ التوازن.
- الآية الكريمة (الّا تزرَ وازرةٌ وزرَ اخرى) (الأنعام: 164 والاسراء: 15 وفاطر: 18 والزمر: 7 والنجم: 38)، من يقوم بالفعل (وازرةٌ) مرفوع، و(وزرَ) (وهو ما يُحمل) مفعول به. وترتبك العبارة لو قرئت بصيغة أخرى غير تلك.
- قول أحد الخطباء وبصورة متكررة: ذلك خلافُ عادتُك(بضم التاء)، والحال (خلاف عادتِك) بالكسر لأنه(عادتك) مجرورة.
- قول أحد الخطباء: (ولئن تزولا الجبال...). وهي قراءة خاطئة للآية الكريمة: (الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا)(فاطر: 41). واللحن في التعبير(تزولا الجبال) مثير للاهتمام. وفيه تتجسد ما تسمى (لغة البراغيث) التي يظهر فيها فاعلان: (ألف الاثنين والجبال). فلو كان التعبير جزءا صحيحا من الآية الكريمة، لكان هكذا: تزول الجبال، لأن الفعل قبل الجمع يكون بصيغة المفرد. نقول مثلا: جاء المُحسنون، وليس جاءوا المُحسنون المحتوية على فاعلين: (واو الجماعة والمحسنون).
-(ثم كان عاقبةَ الذين أساءوا السوءا أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون)(الروم: 10). (عاقبةَ) خبر كان مقدم. و(السوءا) اسم كان مؤخر.
قرأ أحد الخطباء تلك الآية: (ثم كان عاقبةُ-بالضم- الذين...).
- غالبا ما يقرأ الخطباء، وكذلك أئمة الجماعة، الدعاء (اللهم أخرِجنا من كل سوء أخرجت منه محمدا وآل محمد) بلفظ (أُخرُجنا). وينطبق الأمر على(أدخلنا).
- حديث الامام الصادق(عليه السلام): (أعطيت هذه الأمة ثلاثة أشهر لم يعطِها أحدٌ من الأمم....). والصحيح (يعطَها) لأن (يعطَها) مبني للمجهول ونائب فاعله (أحدٌ).
ولو أحصينا الأخطاء اللغوية لدى بعض الخطباء، لطال بنا الكلام والمقام. لكن ما ذكرناه أبرزها.
خلاصة القول، ينبغي أن يعرف الخطباء أن بناء منبرٍ حسينيٍ دون لغة سليمة أمر محال، قد يستمر إلى حين لكن مصيره الاخفاق. فلغتنا التي:
وسعتُ كتاب الله لفظا وغاية
وما ضقتُ عن آيٍ به وعظاتِ
هي من ضمن ما فرَّطنا فيه من دين وقيم وأخلاق، لكنها تمثّل إحدى أكبر الخسارات!
د. حميد حسون بجية المسعودي
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat